المال وقلب المرأة

كان صباحا رتيبا باعثا على الكسل ، وبما أنه يوم عطلة ، فذلك كان سببا كافيا لي للبقاء في فراشي الدافىء ، وعدم تركه مرغما كما أفعل في أيام العمل ، ومع أن أجواء الهدوء التي تخيم أركان المنزل تكاد تقتلني ، إلا أنني لا أنكر مدى حاجتي للعزلة والخلوة بنفسي ، كي أتمكن من حسم أمر تلك الأحجية المكدرة لصفو مزاجي منذ عدة أيام .

بدأت عيناي تسارع الدوران في محجريهما ، مخترقتان فراغ الغرفة شبه المظلم ، وراقبت بصمت ولوج طرقات قلبي إلى بوابات حنجرتي ، كنت خائفا ، مضطربا ، قلقا ، تحاصرني الهواجس ، وتضيق الخناق على عنق راحتي ، فقدت الإحساس بالدفء ، وتجلدت أطرافي ، وباغت جسدي هجوم مفاجىء من نوبات الإرتعاش .

ركلت ملاءة الفراش ، وحاولت النهوض مسرعا ، لكنني لم أغادر السرير تماما ، بل جلست على حافته ، أتأمل وجهي في المرآة ، دون اكتراث لجولات المصارعة الرومانية التي انطلقت منافساتها للتو بين ركبتي ، وجهت سبابة يدي اليمنى صوب الشخص المتواجد في إطار المرآة ، فبادرني بالحركة ذاتها مستعينا بسبابة يده اليسرى ، صرخت في وجهه قائلا : (( أنت السبب )) ، فتحركت شفتاه بكلمتين لم أتمكن من سماعهما ، مسدت شعري بيدي اليسرى ، فمسد شعره بيده اليمنى ، قطبت حاجبي ، فقطب حاجبيه ، حدقت به وعيوني تقدح شررا ، فحدق بي بطريقة مطابقة تماما ، إنه بلا شك يتحدى صبري على أخطائه المتكررة ، ابتعدت عن السرير ، واقتربت منه أكثر ، وبدأت أصرخ في وجهه ودون توقف : (( أنت السبب )) ، حتى اختفت ملامحه وراء البخار المندفع من فمي ، وإذ بيدي التي كانت ترتجف قبل هذه المواجهة ، تتحول فجأة إلى أفعى تتضور جوعا ، وقد وجدت أخيرا فريستها ، فتشرع بعفر ذلك البخار بشراسة بحثا عن غريمها ، وتنقض بأنياب قبضتها على عنقه ، إلا أن أشلاء الزجاج هبت لنجدة من هو في حماها ، لترد تلك الأفعى خائبة ومضجرة بدمائها .

سالت قطرات الدماء على الأرض كصنبور ماء غفل طفل صغير أن يحكم إغلاقه ، فالتقطت منديلا وضغطته على موضع النزيف ، وطوقت يدي بمنديل آخر ، ثم ما لبثت أن تأبطت رواية كنت قد بدأت بقراءتها في الليلة الماضية ، وسرت بخطوات متثاقلة إلى المطبخ ، بغية إعداد قدحا من القهوة ، أشعلت الغاز بيد مرتبكة ، وتفرست الرفوف بحثا عن البن والسكر ، وبعد معاناة طويلة في إيجادهما ، أعددت قهوتي ، وجلست على منضدة المطبخ ، أقلب صفحات الرواية بتباطىء متعمد ، وكأنني أحاول تجنب قراءة السطر الذي توقفت عنده البارحة ، ولكن عيوني اتجهت وبمحض إرادتها إلى جحر الكلمات ذاته ، لتنبطح أرضا وتلدغ منه مرتين متتاليتين وأكثر ، وما طفقت تصر بعد كل لدغة ، على تكبد ألم مطالعته مجددا : (( ما أصعب أن تحب امرأة تعشق جيوبك لا قلبك )) .

كان كل شيء قد حدث عندما التقيتها بمحض صدفة قدرية في أحد المقاهي ، و جلست على طاولة محاذية لطاولتها ، ومنذ وهلة المشاهدة الأولى لها ، لم أتمكن من مقاومة رغبتي في إمعان النظر بكل تفاصيلها ، أصابتني حالة من الارتباك والفوضى ، إذ لم يحدث مسبقا أن أجد نفسي في حالة إذعان تام ، أنا وحواسي الخمس ، لجمال أنثى قط ، ولقد كانت نظراتي تطاردها من أعلى إلى أسفل ، ومن أسفل إلى أعلى ، بدءا بعينيها المدهشتين في اكتمال استدارتهما ، وقد توشحتا برموش كثيفة ، وحدقتين واسعتين من لون العسل الداكن ، ومرورا بوجنتيها المتوردتين بالفطرة ، وثغرها الخجول الممتلىء ، وصولا إلى خصلات شعرها البنية اللون ، والمنسدلة على كتفيها كالحرير ، وبشرتها الحنطية التي كانت تؤكد على أنوثتها المثالية .

تسارعت نبضات قلبي باطراد مذهل ، وهي تعبر أمامي إلى ركن هادىء لإتمام محادثة هاتفية ، فقد كان جسدها متناسقا كعارضات الأزياء المحترفات ، وعندها فقط ، حزمت أمري لإيجاد طريقة ملائمة في التحدث معها ، ومحاولة جس نبض قلبها فيما إذا كان مشغولا برجل غيري .

يقولون : (( الحب كالحرب ، من السهل أن تشعلها ، ومن الصعب أن تخمدها )) ، ولكنني وجدت أن معركة النظرات التي دارت بيني وبين تلك الفتاة ، لم تكن إلا من طرف واحد ، وهذا كان مبررا كافيا لي للإنسحاب والتراجع من تلك الحرب بأقل الخسائر ، إلا أن الغريب في الأمر ، والذي ظل كأحجية باتت تؤرقني في كل ليلة ، هو أنني وعندما أخرجت من جيبي محفظة النقود المتخمة برزم الدولارات كي أدفع الحساب ، اكتشفت أن تلك الفتاة قد أفرطت في التحديق بي بطريقة مستعصية على الفهم ، وعلى الرغم من هذا الإكتشاف ، غادرت المقهى دون أن ألتفت ورائي ، وأنا أجلد ذاتي بسياط الندم لوقوعي مجددا في فخ سوء تقدير الأشخاص من حولي ، وأتمتم بسؤال نفسي : (( هل المال حقا هو أقصر الدروب إلى قلب المرأة ؟ )) .

Followers

Pageviews Last 7 Days