خيالات عاشق في ليلة رأس السنة

في تلك الساحات التي تعج بالبشر وهم يهتفون بالعد التنازلي لعام يلفظ الثواني الأخيرة من أيامه ، ثمة عاشق يقف في منأى عن الجموع في زاوية مظلمة لا تطالها أنوار الاحتفال ، والتي تنطفئ سريعا كلما أفصح العام الجديد عما في جعبته من أحداث وأخبار لا تليق ببشائر التفاؤل المرتقبة في بداياته .

هو ليس معنيا بالسياسة ، ولا يكترث بترقب أزهار الربيع إن أينعت إثر تغيير التربة التي تحتويها ، ولا أعتقد أن الإقتصاد بكساده أو رخائه ، وجنون الأسواق المالية وتقلبات أسعار العملات ، وانهيار تحالفات الدول العظمى أو اتفاقها ، وارتفاع مؤشرات الأمن المجتمعي أو انخفاضها ، قد تحتل حيزا من خياله في تلك اللحظات .

إن قلبه كان يشبه حياة الغجر ، فلا يستقر على محبة امرأة قط ، ولكنه في هذه الليلة عزم أمره على البقاء في أحضان امرأة تدرك تماما أن رياح الحب إذا هبت فلا بد من اغتنامها ، فالتاريخ يؤكد مع كل تعداد زمني لسنواته ، أن الذي يمضي لا يعود ويلتفت للخلف .

ولكن من تكون يا ترى هذه المرأة ؟

أهي امرأة تقطن بلاد العرب أم العجم ؟ شقراء أم سمراء ؟ عيناها كزبد البحر أم كغابات النخيل ؟ أم كالعسل الذي يقطر فوق أغصان البلوط والسنديان ؟

تراها أي حرف اختارت من الأبجدية ليهمس في أذنيها كل حروف النداء ؟ وهل حقا تتقن أناملها مداعبة وجنتيه الشاحبتين ؟ ومعانقة كفيه المرتجفتين ؟

أين كان لقاؤهما المفترض ؟ على ذاك المقعد المقابل لمنزل جدتها عند حديقة الجاحظ في دمشق ؟ أم خلف صخرة الروشة في بيروت ؟ أو قد يكون غفل أنها تنتظره في كوبري قصر النيل ؟ ولربما ابتعدت قليلا ومشت على جسور قسنطينه وسألته أن يكون بطلا لرواية لم تكتبها (( أحلام المستغانمي )) بعد ؟

كل الاحتمالات كانت ممكنه ، وهذا كان يستدعي منه أن يجتهد في حصص التاريخ والجغرافيا ، ويتقن لغات ولهجات عديدة ، ويحفظ كل قصص الحب ودواوين الشعر قبل عصر الحب العذري وبعده ، ولكن ثمة أشياء تظل ناقصة مهما سعى المرء لإكمالها ، كخطوط الحبر التي تنضب قبل رسمها على الورق .

قد يكون في هذه الليلة ينتظرها ، ولربما في الغد سيمضي مع العام الجديد ويستجدي حلول عام آخر ، كحاله منذ ثلاثة عقود قد خلت ، لا شيء مما يتمناه يحدث قط ، لعله في هذا العام يدرك أن نصيبه من هذه الدنيا لا يتعدى الأمنيات .

ولذلك أيها العاشق كفاك خيالا وتمني ، ففي الحب إما أن تكون أو لا تكون ، ومن العدم لا يخلق العشق ، و لا توجد منطقة رمادية أو بعد ثالث يخط على كراسات القلوب عاطفة يتم وأدها حين ولادتها .

عند حلول كل عام جديد ، نتفاؤل ونتمنى ونحلم ، ولكننا لا نجرؤ على محاولة الإقدام لتحقيق ما نصبو إليه ، ونلقي باللوم دوما على الظروف والأقدار التي تعاكس إرادتنا ، فمتى نتحرر من هواجس تلك القيود ، ولا نتردد ولو لمرة واحدة في حياتنا من المسير في دروب دون التفكير بنهايتها ؟

أميرة من بلاد القوقاز


كي أكتب عنك ، فذلك يستدعي أن استحضر طقوسا استثنائية ، فلقد كانت الليلة الأولى من نوفمبر ، ذاك التاريخ المرتبط على وجه الدقة بذكريات (( أحلام المستغانمي )) كاتبتك المفضلة ، والمرتبط بذكرى تدوينتك التي لن أنساها ما حييت قط ، فلقد كانت أول تدوينة بحق قلمي الذي لطالما عاش في الظل وحيدا ، لا يجد نور حروف تشرق على كراسات أوراقه بكلمة مديح أو ثناء .

ولذلك دعيني أخاطبك اليوم على طريقة (( ابن طوبال )) ، فأشعل الذاكرة بخيباتي الكتابية من قبلك ، والتي بدأت تحديدا وأنا في الخامسة عشر من عمري ، حين وبخني أستاذ اللغة العربية أمام الطلاب على سرقتي لموضوع تعبير من مقالة في مجلة لا يعلم مصدرها ، ولم يسبق له قراءتها ، فأقسمت له ببراءة قلمي من اتهامه ، ولكنه أصر على منحي درجة متدنية ، وأذعنت يائسا لعقوبة أول جريمة كتابية اقترفتها ، بعدما كنت أظن أنني أرسم لوحتي الأدبية الأولى .

وبعد عام واحد فقط ، لجأت إلى الأوراق البيضاء تارة أخرى ، لعلها تقنع حبيبتي الأولى بالعدول عن قرارها في الهجران ، فكتبت أول رسالة حب ، وترجمت بحرص شديد ، لغة القلب والروح بعد رحيلها ، ودموعا ما جفت في مآقيها ، وأياما ترفض حياة لا تحتويها ، وعهدا لن تنحل عقدته مهما طال غيابها ، فكان ردها على رسالتي مؤثرا حقا ، إذ ضج بيتها بزغاريد خطبتها على رجل يعمل في بلد نفطية ، وحينها لعنت قلمي الذي كلما لامس الورق ، أثخن حياتي بالحزن واليأس والخيبة .

وبعد ثلاثة أعوام ، انقطعت الأخبار بيني وبين صديق هاجر البلاد ، وكنت مشتاقا له أشد الاشتياق ، وما كنا نعلم حينها مكان القرية التي سيلتقي فيها العالم وهم جالسون في بيوتهم ، فكان لامناص من الكتابة مجددا على الورق ، ورجوت القلم أن يساعدني في استفزاز مشاعر الحنين لدى صديقي حال تسلمه لبرقيتي المسجلة بعنوان بارز يدعى الإشتياق ، ولكن جمال القارة العجوز كان كفيلا بإلقاء رسالتي في أقرب سلة مهملات ، ليتجدد موعد الخيبات الذي بات مرتبطا بالكتابة .

ومضى عقد من الزمان ، والخيبات تطاردني في كل ميدان ، ولكن عشقي المجنون للكتابة ظل ملتهبا لا تخمده ثلوج اليأس والحرمان ، فأعدت ترتيب الأفكار والتساؤلات التي شغلت حياتي لثلاثة عقود من الزمان ، وبدأت أكتب تدوينة تلو الأخرى ، حتى أتيت في الأول من نوفمبر ، مخالفة كل قوانين الإحباط التي لازمتني في مشواري الكتابي ، لتكتبي بقلمك الرائع توصية تزكين فيها قلمي ، ومن فرط سعادتي وأنا أقرأ حروفك في ذلك اليوم ، لم ألتفت إلى أستاذ اللغة العربية الذي لا يفتأ ذكرا لقصتي في كل مجلس مع زملائه المتقاعدين وهم يلعبون النرد في المقهى ، وإلى حبيبتي الأولى وهي تتحسر في حديثها مع جاراتها عن أمنياتها بكلام عذب تسمعه من زوجها ويكون شبيها لرسالة قرأتها في أيام مراهقتها ، و صديقي الذي أضافني على قائمته في الفيس بوك وهو يفرط في ارسال حنينه لأيامنا الماضية ، فذلك كله لا يضاهي فخري واعتزازي بشهادتك التي جعلت موعدا استثنائيا للفرح يتزامن مع لحظة كتابية لقلم أجهدته الخيبات .

هذه التدوينة مهداة إلى الأميرة القوقازية (( هدايه )) صاحبة مدونة (( orangee ))

على خطى " فلورينتينو "


منذ خمسة عقود و أنا أستجدي لقاءنا الموعود ، وقفت أمام كل الأبواب الموصدة ، وما أذعنت لليأس من انفراج أقفالها ، ومشيت في درب قد طال فيه المسير ، عازما على الوصول إليك ، غير مكترث بمحطات العمر التي جاوزتها خطوات أيامي المتلهفة للقائك ، فشحذت الأمل بقلبي ، وحملت على أكتاف روحي الصبر ، لأجدد لك مع فجر كل يوم جديد ، قسمي الأبدي بحبك .

مضى العقد الأول وأنا أبحث عنك ، أنام وأصحو ولا أهذي بكلمات لا تبدأ بحروف اسمك ، ألتهم دواوين الشعر ، وأعيش تفاصيل كل روايات الحب ، وأسهر على آهات العندليب و مواويل القيصر ، دون أن يشغل حيز تفكيري من المستقبل أي هدف لا يتقاطع مع رغبتي الجامحة في إيجادك ، وفي ذات قدر متأخر ، عثرت عليك وأنت ترتدين طرحتك البيضاء وتزفين عروسا لرجل غيري .

في العقد الثاني ، كنت كالطيور المهاجرة أتنقل من أرض امرأة إلى أخرى ، وعبثا كان تأقلم القلب بأجواء حبهن ، مما استدعى رحيلي المتواصل في ليالي الفراق خلسة وعلى رؤوس أصابعي ، فلا التفت ورائي خشية الحنث بقسمي الأبدي حين أشاهد دموعا تسألني عدم الرحيل ، وعندها أجوب كل أراضي النساء المترامية أمام بصري ، ولا أغفل الالتفاف بحرص حول أرضك المحرمة على قلبي أن يطأها ، وتحديدا في الوقت الذي كنت تحتفلين فيه بعيد أمومتك الأول فالثاني ، وأنا أقف على حدود أرضك أراقب ذلك كله ، وازداد إصرارا وعزيمة على إدراك اليوم الذي قد يجمعنا .

وجاء العقد الثالث وما أقحمتك بمعاناة الانتظار ، بل كنت اكتفي بمشاهدتك من بعيد ، والاطمئنان على دوران عجلة أيامك في مسار سعيد ، وعلى الرغم من أنني كنت استشعر دنو لحظات الشباب عن الرحيل ، إلا أن حبك في قلبي ظل فتيا ، لا تسري إليه أعراض الهرم قط .

وعند العقد الرابع اشتعل الرأس شيبا ، وأنا لا أزال أمشي في دربك وأتعثر بالفراغ ، حتى أصبحت أخشى في كل محاولة أواصل فيها المسير ، أن أجد صدر الموت يضمني عوضا عن صدرك الذي قضيت أربعين عاما وأنا أتمنى اللجوء إليه في إقامة عشق أبدية .

وبدأ العقد الخامس من مشروع حبك المؤجل ، والذي عجزت عن إتمامه طوال تلك الأيام والسنين ، وأنت حينها كنت تضيفين لقبا جديدا إلى ألقابك ، والتي حالت دوما بين قلبي وقلبك ، فمن زوجة إلى أم وأخيرا إلى جده ، ومع هذا لا استسلم قط ، ولا أتوقف عن المسير إليك ، فبمجرد أن أتذكر دنو الأجل ، كان حبك يزداد كثافة في قلبي ، فغدوت به كحصن منيع ضد الشيخوخة المستفحلة في شتى أركان جسدي ، غير آبه بمعاناتي الممتدة لنصف قرن من السنين ، والتي عاهدت نفسي أن ألقي بها وراء ظهري في يوم لقائك ، وأنا أجدد لك قسمي بحبي الأبدي .

ولكن وبعد كل هذا الانتظار ، يتمكن رجل آخر من اختطافك مجددا قبل وصولي إليك ، ويا له من رجل لم يكن باستطاعتي التصدي له بأي حال من الأحوال ، فهو أقوى من كل الرجال ، إنه الموت ، إلا أنني لم أبكي بل ضحكت ، فلقد أصبح يمكنني الوقوف عند شاهد قبرك ، والبوح بقسم حبي إليك دون أن أخشى البشر من حولي ، أو حجارة ضريح قبرك التي سيرتد منها صوتي ، فحبي لك كان دوما أقوى من كل الحواجز المنيعة ، وقطعا ستسمعين ندائي ، وتهبين من مرقدك كمليكة متوجة على عرش قلبي ، فأضمك إلى صدري الذي ظل خاويا منك نصف قرن من الزمان .


مستوحاة من (( الحب في زمن الكوليرا )) رائعة الروائي الكبير (( غابرييل غارسيا ماركيز ))

إلى امرأة الياسمين


في كل ركن من أركان ذاكرتي ، تعبق رائحة ياسمينك ، فهل آن الأوان كي أعترف لك دون مواربة أو كبرياء ، بأنني يا حبيبتي اشتاقك كلما تنفس الصبح وعسعس المساء ؟

لا زلت أذكر كل التفاصيل ، لعشق أجهض في رحم الواقع ، ولقصيدة حب خطتها قلوبنا على كراسات القهر والحرمان ، ولهذا كانت السعادة في فصول حكايتنا حلما مع وقف التنفيذ .

كم كنت أتمنى لو كف المنطق في عقلك عن الدوران ، كي أضمك لصدري وأبكي على كتفك كالأطفال ، ولعلي كنت حينها سأدرك حكمة البعث من نعش الحياة التي مضت قبل لقائنا .

كيف السبيل إليك ؟ وقد أضعت كل خرائط الأمل التي قد تقودني لقلبك ، ومضيت في دروب معاكسة لدربك ، فلا حطت رحالي في أرض امرأة إلا وعزمت الرحيل كي أبحث عنك من جديد .

أين أنت الآن ؟ بل أين أنا ؟ أهو قدر يعبث بي ؟ فيجعل رجلا غيري يقطفك حين أينع زهرك ، وأنا منذ عصور أروي بذرتك بأحلامي وأنتظر حصادك في موسم من مواسم الواقع .

كلما سيداعبني عطر الياسمين ، سأظل أبكيك منتظرا معجزة تجعل الطبيعة تتضافر لتنتزعك من خلف الأسوار التي تقف حائلا بيننا ، وحتى لو استدعى ذلك أن أنتظرك دهرا ، أو أموت قهرا ، ففي كلتا الحالتين ، أنت وأنا أو أنا وأنت ، مطر وياسمين ، خلقنا لنكون معا ، فالسحاب الذي لايمطرك حمله كاذب ، والياسمين الذي لا يحتوي وجودك هو حتما زائف .

ألا زلت تتئكين على عصا المستحيل ؟ وتهشين بها أسباب الجفاء وتستعينين بها لمآرب الإذعان لصوت الضمير ، إذن ألق بها ولا تخافي أن تتلكأي في المسير ، فكل الدروب قطعا لن تكتمل نهايتها إلا بين ذراعي يا حبيبتي ، فإلى متى ستكابرين ؟

متى ستسيرين نحوي دون أن تتعثر خطواتك بسعادة قد تضيع من الآخرين ، ولماذا تكتبين على سطور أيامنا الشوق والحنين ، هل التضحية في الحب دوما تحتمل كل هذا الخسران المبين ؟

ذكرى سعيدة .. دوما


ما أعرفه عن أسطورة الحب .. أنها و رغم أبديتها .. تنشأ فى لحظات

ما أعرفه عن أسطورة الحب .. أنها جدا نقية .. بريئة .. مباشرة .. دافئة .. طبيعية .. و هذا اهم ما يميزها

حبيبتي .. هي أسطورتي .. الابدية .. النقية .. حبيبتي هي كل تلك المعاني التي لا يمكن لكلماتي أن تصفها

تعرفون حبيبتي .. حين ترون فتاة جميلة .. هي أقرب لتفاصيل الطبيعة التي تتنشقونها فى كل يوم .. و ترونها فى كل نهار .. هي أقرب لصوت الاشجار .. لنسيم الفجر .. لعبق الزهرات الندية .. تعرفون حبيبتي لأنها جميلة بحق .. بلا أي رتوش تحاول إضافة ألوان إلى لوحة مبهرة بطبيعتها .. حبيبتي هي الشمس التي تحب أن تنعم بدفئها دون نظارات سوداء قاتمة .. حبيبتي هي النسمات الباردة التي تحب أن تداعب ذراعيك دون أكمام .. حبيبتي هي المركب الذي تحب أن تبحر به دون أشرعة تدفعه بقوة وسط الامواج .. فى حين تفضل الابحار الهادىء الذي يمنحك الاستمتاع بالبحر و الهدوء معا .. حبيبتي مثل زخات المطر التي تحب أن تقطر على وجهك دون مظلة .. تزيل هموما آلمتك و تمحو لمحات حزينة أثقلت تجاعيد وجهك .. حبيبتي مثل الضحكة التي ترتسم على وجهك دون تصنع مع كلمة متلعثمة يخرجها طفل صغير أو فكاهة قبيحة يقولها أحد اصدقائك فى سهرة تجمعكم للمرة الاولى منذ أعوام .. حبيبتي مثل دمعة تذرفها عيونك دون حزن أو خوف .. دمعة بريئة كطفولتك .. وليدة موقف يملؤه الشجن .. دمعة تعني الكثير لمن معك .. وتخرج الكثير مما بداخلك

حبيبتي .. ليس كمثلها فتاة .. حبيبتي لا تكون إلا (حبيبتي أنا) .. لأنها عالمي الذي لايمكن التنازل عنه .. ومفتاح مستقبلي الذي لايمكن البدأ بدونه .. ودفاتر ذكرياتي التي لا تُنسى أبدا

حبيبتي مميزة .. لأنها بحق .. مختلفة .. نقيّة .. و طبيعية

سن التقاعد العربي


اكتمل نصاب العقود الستة من عمري ، أكاد لا أصدق ذلك ، إنني لا أزال على قيد الحياة ، ولم تهوي ورقة الأجل بعد ، ومع أن حالتي الصحية لم يعد فيها موضع شبر لمزيد من الأمراض الجسدية أو المعنوية ، ولكني لست مكترثا لذلك الآن ، فاليوم سأحتفل ببلوغي لسن التقاعد ، وسأحيل أوراقي إلى فضيلة محاسب الشركة ، كي أنجز معاملة مستحقات نهاية خدمتي ، والتي جاوزت الثلاثة عقود ، دون أن أتمكن خلالها من تحقيق حلم لطالما راودني براتب تختلف فيه ملامح خانته الثالثة ولو لمرة واحدة على الأقل .

ارتديت بدلتي الرسمية القاتمة اللون ، ولربما يصعب تحديد لونها على وجه الدقه ، فأنا ارتديها يوميا منذ فصل الشتاء المنصرم قبل خمسة أعوام ، وهي ملاذي في كل المناسبات من أفراح وأتراح ، ولكني أذكر أنها كانت سوداء حين اشتريتها من بائع متجول ، كان قد أقسم لي ثلاثا بأنها بضاعة تم تهريبها من اسطنبول وذلك كي لا تأخذني الهواجس والظنون وأجزم أنها قادمة من بكين .

حاولت تجنب مواجهة المرآة قبل خروجي من المنزل ، فلا أشاهد وجهي المتآكل بالتجعدات ، وعيوني الذابلة وما يحيط بها من هالات ، وشفتي المزمومتين وما تخفيان وراءهما من أسنان زائفة ، وعنقي المترهلة وقد انغرست بين كتفي المتهدلين ، وتلك السماعة اللعينة التي تحيط بأذني اليمنى ، وبقايا الشعر الأبيض الذي بالكاد يغطي ثلث مساحة رأسي ، نعم لقد بلغت من الكبر عتيا ، وتكفي نظرة خاطفة إلى الصورة المعلقة على الجدار منذ يوم زفافي كي أدرك أنني قدم في الدنيا وأخرى في القبر .

اتكأت على عصاي واسندت مايمكن اسناده من ظهري المحدودب ، ومضيت قاصدا مكان عملي ، ممتطيا حافلة النقل العام بعد أن نطقت بالشهادتين ودعوت المولى بحسن الختام وذلك عندما تدافعت من أمامي الرؤوس والأقدام بمجرد وصول الحافلة ، ولولا تدخل أهل الخير الذين هبوا لنجدتي قبل الغرق في ذلك السيل البشري الزاحف ، لكنت الآن أرقد في قبري مع زملائي الذين التحقت وإياهم بالعمل في التاريخ ذاته ، و لكنهم رحلوا عن الدنيا قبل بلوغهم لسن التقاعد المرتقب .

أبحرت في خيالي وأنا أنظر من نافذة الحافلة ، بمباراة الدوري الالماني التي شاهدتها قبل يومين وذلك عندما كانت كاميرا التصوير تتحرش بوجوه الجماهير قبل انطلاقة صافرة الحكم ، وتحديدا برجل وزوجته يتقاطعان معي في سنين العمر و يترقبان المباراة بمنتهى اللهفة ، وذراعه تحيط كتفها وقد مال رأسها على صدره ، فابتسمت ساخرا من ذلك التناقض العجيب بين بشر يقبلون على الحياة من جديد بعد بلوغهم لسن التقاعد وبين بشر اعتزلوا مباهج الحياة قبل التقاعد وبعده ، مع استثناء من يموت قهرا من الاحباط واليأس وهو لايزال في ريعان الشباب .

وصلت إلى مقر الشركة ، وألقيت التحية على موظف الأمن المتقاعد من الجيش قبل عشرة أعوام ، والذي لطالما كان يؤكد لي أن هذه الوظيفة تحتاج لخبرة رجل مثله وليس لشاب غر لا يفقه في العمل الأمني والعسكري ، وعندما دخلت البوابة الرئيسة للشركة ، استوقفني صوت أنثوي عذب قادم من نافذة الاستعلامات ، (( عفوا عمو ... كيف بقدر أخدمك )) ، التفت خلفي فوجدت فتاة لم تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها ، وقد تدثر وجهها بمساحيق تجميلية تشبه إلى حد بعيد ما يستخدمه المهرجون في السيرك وقد امتد من خلف غطاء رأسها ما يشبه سنام الجمل ، اقتربت منها مندهشا وسألتها عن الموظفة السابقة (( أم سليم )) ، فأخبرتني أنها اصيبت بشلل نصفي بعد تعرضها لحادث سير ، فدعوت لها بالشفاء العاجل وأكدت لها أنني موظف قد تقاعد من الشركة حديثا وجئت قاصدا قسم المحاسبة لاتمام معاملة تقاعدي ، فطلبت مني الانتظار قليلا حتى تعلمهم بقدومي ، ولكن جرس هاتفها قطع حديثنا ، استأذنتني للرد وكانت المكالمة الواردة على مايبدو من صديقتها ، ومالبثت ان احتدت مؤكدة موافقتها المبدئية على تقاضي هذا الراتب ، والذي اكتشفت أنه يضاهي ضعف راتبي عندما أنهيت مشوار خدمتي في هذه الشركة الموقرة .

وبعد أن غادرت نافذة الاستعلامات ووصلت إلى دائرة المحاسبة ، استقبلني وبكل ود رئيس القسم (( أبو سمير )) بابتسامته المعتادة التي تفضح دوما صف أسنانه الأمامية البائدة منذ أمد بعيد ، ولقد تفاجأت وأنا أتمعن بتفاصيل جسده التي كانت مختزنة دوما بالشحوم والدهون ، أنها قد تضآلت وتكاد تختفي تماما ، فسألته عن سبب نقصان وزنه ، فتنهد بحسرة ، ليخبرني أنه أصيب بالسكري والضغط والبواسير في أقل من شهر واحد ، فدعوت له أيضا بالشفاء و أشفقت على حاله ، فهو لايزال يقف قبل محطة التقاعد بعقدين .

وبعد أن احتسينا كوبين من الأعشاب التي لم تحظر بعد من قائمة مشروباتنا ، قدم لي (( أبو سمير )) الشيك الخاص بمكافأة نهاية الخدمة والذي كان يمثل بمجموعه استحقاق ثلاثة رواتب وفقا للحد الأدنى في قوانين العمل ، وعندها فقدت آخر جرعة من الصبر وضقت ذرعا من هذا الظلم الذي سكت عنه منذ عقود ، فلطمت (( أبا سمير )) واعملت عصاي على رأسه العاري من الشعر وأنا أصرخ بأعلى صوتي : (( كفاكم ظلما ... كفاكم ظلما ... نريد حقنا في أن نعيش )) .

صرخت زوجتي مذعورة وبأعلى صوتها : (( استيقظ يا رجل )) ، فصحوت من نومي مذعورا ، ونظرت إلى زوجتي فوجدت أنها لا تزال في ريعان الشباب ، وتأملت وجهي في المرآة سريعا ، فاكتشفت أن ملامحي لم تتغير عن صورة يوم زفافي بعد ، حمدت رب العالمين واستعذت به من الشيطان الرجيم ، ونهضت إلى المطبخ كي أشرب كوبا من الماء وعرجت في طريقي إلى باب المنزل كي أحضر الصحيفة ، وإذ بي أقرأ عنوانا مكتوبا وبالخط العريض ، ألا وهو قرار مديرية التقاعد برفع سن التقاعد خمس أعوام أضافية ليصبح ستة عقود ونصف عقد من السنين ، فضحكت ملء فمي وبكيت حتى اغرورقت عيوني بدموعها ، فمن هو سعيد الحظ الذي سيظل على قيد الحياة حتى بلوغ سن التقاعد الجديد ؟

Followers

Pageviews Last 7 Days