الدرويش

مذ كان في المدرسة الإبتدائية ، ووالدته تفرط بتوصيته في كل صباح وهي تدس له شطيرة (( الزيت والزعتر )) في حقيبته الصفراء الصغيرة ، كي لايشارك الأولاد في الصف بلعبة تكرار الكلمات المتشابهة الحروف ، ولكنه لم يكن يفهم سبب إصرار والدته على وصيتها ، وهو الذي يحلم في كل ليلة أنه يذهب إلى المدرسة ويهزم الأولاد جميعا في سرعة اندفاع لسانه بالنطق دون أية عثرات .

تبدأ حصة اللغة العربية ، وتطالبه المعلمة بقراءة أنشودة فلسطين الخالدة ، فيقف مرتبكا ، ليس بسبب عدم حفظه للنشيد ، بل لخوفه من انقطاع صوته أثناء انتقاله بين الكلمات ، يقف صامتا كصخرة تتلاطم عليها أمواج متتابعة من الهواجس والأفكار ، لتقطع المعلمة صمته بصراخها ، فيما إذا كان قد حفظ النشيد ، فيستجمع أنفاسه ، ويفتح فمه مسرعا ، ولكن الكلمة الأولى ظلت حبيسة لسانه لثوان مرت عليه كدهر ، قبل أن تتحرر وتندفع بثمانية حروف من أصل حروفها السته (( ف ... ف ... فلسطين )) ، ويسبق نطقه للكلمة التالية ، ضحكات الأولاد الساخرة ، والتي احتلت فراغ الصمت الذي سبق شروعه بالإنشاد ، لتعاود المعلمة صراخها ، ويصمت الجميع بإذعان تام ، فيكرر محاولته لإكمال النشيد وبإصرار أكبر ، ويفلح في إنشاد الشطر الأول بصوت عذب وجميل (( فلسطين داري ودرب انتصاري )) ، ثم لايلبث أن ينزلق صوته بعدها في هاوية التلاشي بفم فاغر عاجز عن النطق ، وفي هذه الإثناء احتدم الصراع بين عقله ولسانه وهو يملي عليه النطق بمطلع الشطر الثاني (( تظل بلادي هوى في فؤادي )) ، إلا أن لسانه تعثر مجددا في أول كلمة ، مرددا حرف التاء ثلاثا ، لتتعالى الضحكات ، وتقلب المعلمة كفيها آسفة على حاله ، وتشكره على اجتهاده في المحاولة ، بكلمات لم تمنع دموعه عن الجريان .

تأتي العطلة الصيفية ، والتي يعتقد أنها ستكون ملاذه الآمن من سخرية الآخرين لطريقة نطقه ، فيصطدم بسؤال إمام المسجد له بعد صلاة الجمعة ، عن سبب عدم التحاقه مع أولاد الحي بدورة حفظ القرآن الكريم وتعلم أحكام تلاوته ، ولايتركه إلا بعد أن يحظى منه بوعد على حضور الدرس بعد صلاة المغرب ، ينظر إلى السماء ويتمنى لو أن الشمس في هذا اليوم لاتغيب ، ولكنها تسرع في الاختفاء وراء الجبال على غير عادتها في أيام الصيف ، فتنعقد حلقة الدرس ، ويجلس على يسار الإمام ، آملا أن ينقذه آذان العشاء قبيل مجيء دوره في التلاوة ، فقد علم من صديقه المشارك بتلك الدورة ، قيامه بذلك الفعل المتعمد دائما ، إلا أن الأمام وعلى غير عادته ، يباغت خطته باقتراح مناداة الأسماء بشكل عشوائي ، ويقع عليه الاختيار الأول ، ليتلعثم عند التعوذ ، وينطق البسملة بدءا بلسان صامت ، فيتهامس الأولاد فيما بينهم مستهزئين ، ويتبع همسهم زجرة عيون الإمام الغاضبة ، وتلاوته للآية الأولى من سورة المسد ، كمحاولة لمساعدته على كسر حاجز الخوف من النطق ، وبالفعل نجحت مبادرات الإمام وتمكن من نطق أول كلمتين وبدون تردد (( تبت يدا )) ، ليعجز مجددا عن التفوه بكنية من وعده رب العالمين بنار ذات لهب ، وفي تلك اللحظات وبينما كانت همسات الاستهزاء تتهيأ لاعتصار الدموع من عينيه اليائستين ، تأتي بشرى الإمام مطمئنة إياه ، أن أجر قراءته مضاعف في ميزان حسناته عمن سواه بإذن الله تعالى .

يعود إلى المنزل ، ويثب إلى صدر أمه باكيا ، فتربت على رأسه وتضمه بعزم أكبر كلما أجهش بالبكاء ، فهي لاتجد مناصا في حل عقدة لسانه ، إلا بالدعاء لرب السماء والأرض ، لإنها تتذكر جيدا ماقاله الطبيب لها قبل سنتين ، إذ ليس هنالك من علاج لحالة ولدها كي ينطلق لسانه بالكلام دون توقف ، بيد أنها تذكرت فجأة الحديث الذي دار بينها وبين إحدى صديقاتها ، والتي أكدت لها أن علاج ولدها هو في تناول كميات من (( الفستق الحلبي )) ، وروت لها قصة ابن أخت جارة عمتها ، والذي كان لايتكلم أبدا ، حتى بدأت والدته بإطعامه الفستق في كل يوم قبل وبعد وجبات الطعام ، فتمكن وخلال أسبوع فقط ، من الكلام وبشكل أفضل من الكبار ، وبالفعل بدأت والدته ترسله في كل يوم لشراء الفستق وتحثه على تناوله بالطريقة التي وصفتها صديقتها ، ولقد ظل يأكل الفستق بعدها حتى بات مدمنا عليه ، لدرجة أنه لو تأخر عن تناوله يوما ، يصاب بحالات ارتعاش غير قابلة للتأويل والتفسير ، وعلى الرغم من كل هذا ، فقدرته على النطق لم تتغير .

لم يكن حاله في شبابه أفضل من طفولته ، فلقد أطلقوا عليه في الحارة لقب (( الدرويش )) ، ولم يكن السبب في تلك التسمية ناشئا عن صعوبات النطق التي يعاني منها فحسب ، بل لأنه كان أيضا يكظم غيظه بين محيط عمله ومكان سكنه من سخرية الآخرين واستهزائهم به ، ولقد كان يحدث في كل يوم جمعة ، تجمهر حشد كبير من الناس أمام المطعم لشراء الفول والحمص ، وبمجرد قدومه يبدأ الأولاد بالتصفيق والهتاف ، أما صاحب المطعم فلا يتورع عن تقليد طريقته بالكلام وهو يأخذ منه النقود لتلبية طلبه ، فيعج المطعم ببكاء المتواجدين فيه ، ليس بسبب الحزن طبعا ، بل من كثرة الضحك .

وكعادته يخرج من المطعم وهو يتمتم : (( سامحكم الله يا أخوتي )) ، ليخترق مسامع كل من في المطعم دوي كوابح سيارة وهي تحاول جاهدة التوقف قبل دهس فتاة كانت تحاول عبور الشارع ، فيرمي (( الدرويش )) صحن الحمص ، ويقفز كالفهد ملتقطا الفتاة قبل ثانية من اصطدام السيارة بها ، فيصاب جميع من كان في المطعم بحالة ذهول تام ، وهم يكادون لايصدقون ما رأته عيونهم للتو ، ويتبع ذلك نوبة ندم تجتاح قلوبهم وقد امتزجت بألم الحسرة على فظاعة ماكانوا يفعلونه بحق ذلك (( الدرويش )) ، ثم مالبثوا أن تداركوا موقفهم بالركض نحوه جميعا وهم يبكون ، ليبتسم حينها ويقول لهم وبدون تلعثم : (( أنا أحبكم جميعا )) .

تكثر في مجتمعاتنا ظاهرة السخرية والاستهزاء من الأشخاص الذين لديهم عيوب خلقية ، ولكنهم لايعلمون أن العيب ليس في الخلقة ، بل في الخلق السيء الذي لايجدي معه جمال المظهر .

Followers

Pageviews Last 7 Days