قصص حب لم تجد لها حبيب ... القصة الثانية (( حسناء الفوازير ))

لا زلت أذكر تلك القصة وتفاصيلها ، والتي حدثت مع بزوع هلال شهر رمضان ، في سنة أعجز عن احتساب خاناتها الميلادية وتقاطع الأرقام المقابلة لها في التقويم الهجري على وجه الدقة ، ولكن أعتقد أنني كنت صبيا عابثا حينها ، يقف على عتبات نهاية العقد الأول له في هذه الحياة ، وهي فترة زمنية لم تفلح في ترسيخ معالمها ، وانقرضت كلمح البصر فور اندلاع ثورة التكنولوجيا الرقمية و ما يعرف بعصر العولمة .

إن رمضان في ذلك الأمس القريب ، كان صبيا مثلي تماما ، فهو ما كان ليشابه نفسه مع عقود قد خلت قبل ولادتي ، إلا بصدى قرع طبول (( المسحراتي )) في جوف الليل الراكد ، وتوقف المدينة عن الحياة لحظة هروب الشمس إلى مخدعها وقت الغروب ، أما نهار الصيام فيقسم به الآباء والأجداد بأغلظ الأيمان ، لزمان كان قد مضى ولن يعود قط ، فالطرقات ضاقت بعابريها مع كل موسم رمضاني متعاقب ، ولربما كان ذلك حال  الوطن أيضا حين ضجر من أبنائه الأولين ، وباع نفسه بأبخس الأثمان لحفنة من المرتزقة ومصاصي دماء المساكين والفقراء ، فأصبح كل شيء فاسدا وملوثا ، حتى الماء والهواء .

ولقد كانت سطوة التلفاز ومسلسلاته منذ أحداث هذه القصة وحتى أيامنا في هذا الزمان ، هي القاسم المشترك لكل علامات السنين المتوالية للشهر الفضيل ، و ظل زخم الحشد في المنافسة منحصرا في نجوم لم تأفل من سماء الشاشة رغم هرمها ، بل إنها أكدت وفي مناسبات عديدة مصداقية المثل القائل بأن (( فرخ البط عوام )) ، فورث أبناؤهم وبناتهم مواهبهم الفذة ، وكأن الفن في بلادنا كغيره من المهن ، من الممكن توريثه جيلا بعد جيل ، لسلالات لا تندثر فيها جينات المواهب قط .

وبالرجوع في أرشيف الذاكرة لتلك الأيام ، كانت (( الفوازير )) وقصص (( ألف ليله وليله )) هي المسلسلات الشهيرة المتكررة في كل عام ، ولكن مع اختلاف الفنانين المتعاقبين على أدوار البطولة فيها ، وهنا بدأت حكايتي مع حسناء الفوازير التي جابت بقلبي أرجاء الدنيا ، برقصاتها وحركاتها وخفة ظلها ، فعشقتها في كل يوم بجنسية وشخصية جديدة ، فتارة تكون عربية وتارة تكون اوروبية ، ثم لا تلبث أن تصبح أمريكية أو أفريقية وحتى آسيوية ، وأنا مع كل حلقة أتعلم فنون العشق بكل اللغات ، لفتاة مصرية سمراء لا تتكرر إبداعاتها في التمثيل والرقص والغناء مهما توارثت أجيال متعاقبة من مواهب جيناتها ، فالاستثنائيون لا يأتي من بعدهم إلا من كان استنساخا مشوها لهم ، فالتميز هو أن تتعلم من تجارب من سبقوك في ميادين الحياة كي تعبد دربا تسير فيه وحدك ، لا أن تسير حيث انتهت بهم الدروب .

لماذا يتعلق الأطفال بنجوم في التمثيل والغناء ؟ على الرغم من عدم تعمد أعمالهم لمحاكاة الصغار ، بينما ينفرون من أعمال فنية تكون متخصصة في استهدافهم ؟ هل السر يكمن في جودة العمل وقدرته على دخول قلوب الأطفال بعيدا عن أساليب الترهيب والعقاب المتعارف عليها في بلادنا ، تماما كما يحدث في الرسائل السياسية  ، وهنا للحديث شجون ، حين نستذكر المشاهد التي يتم فيها حشد الأطفال الأبرياء من المدارس ، والوقوف بهم في الميادين والطرقات العامة للهتاف بحياة قادة الأوطان والبلاد ، وكأن ذلك يمنحهم صك البراءة والعفة على عدلهم وحرصهم على أبناء شعبهم ، في حين أن اللجوء لمثل هذه الأساليب إنما هو دليل فاضح على عجزهم وإفلاسهم السياسي ، فمن أراد أن يقيم نفسه كحاكم محبوب في بلاده ، فليتنكر بزي شعبي و يجوب البلاد من شرقها إلى غربها كي يتحرى عن رأي وتقييم كافة أطياف المجتمع السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والدينية لإدارته في تسيير شؤون البلاد ، دون محاباة أو خوف من بطشه وبطش أعوانه .

وكما يقولون في الأمثال : (( ما زاد عن حده ينقلب لضده )) ، فلقد ارتفعت وتيرة الإعجاب والتعلق بـ (( شيريهان )) لأذهب بعيدا في خيالي ، وأتقدم لخطبتها ، بعد أن رسمت  تفاصيل علاقتنا على كراسات ممهورة بعشقها حد الجنون ، لأنتظرها خلف الكواليس في استديوهات التصوير  ، وأراقب سعادتها بحضوري ، ولهفتها لعناقي بعد كل مشهد تنجزه في فيلم أو مسلسل ، بل إن أحلامي جاوزت المدى المسموح به للإمنيات التي قد تتحقق ، بعد أن لعبت دور البطولة أمامها بشعري الأبيض حين كانت عذراء ، وعندما كنت طبيبا يحارب من أجلها جميع البشر لأثبت رجاحة عقلها ، ولم أكترث لفضيحة العمر وهي تتهمني بالاعتداء عليها ، فمن أجل عينيها عشقت بكل جوارحي ، بعد زمان قضيته في زيارة القبور قبل تغيير وظيفتي من معلم في مدرسة إلى مدير لـ (( كابريه )) ، برفقة نجمة استعراضية كانت الأروع ، بشهادة خشبات المسرح وعميدها الراحل (( فؤاد المهندس )) .

وفي يوم من الأيام قررت البوح بأسراري العشقية لوالدتي ، وتوسلت إليها كي تسافر إلى مصر لتخطب لي (( شيريهان )) ، فابتسمت والدتي وربتت على كتفي وقد انحنى رأسها إذعانا بالموافقة على طلبي ، شريطة أن اجتهد في المدرسة وأتفوق على جميع أقراني ، وأذهب إلى الجامعة كي أنال شهادة تؤهلني للعمل في وظيفة تعينني على شراء ملابس (( شيريهان )) الاستعراضية ، معللة ذلك بأنها ستهجرني إن لم أتمكن من تلبية طلباتها ، ففكرت قليلا ، ثم راودتني الهواجس والظنون في حسابات زمنية قد تطول لحين بلوغي محطة التخرج من الجامعة والعمل ، ولكن والدتي أكدت لي بأنها ستتصل بـ (( شيريهان )) على الهاتف وتأخذ منها ميثاقا وعهدا كي تنتظرني وترد جميع العرسان المحتملين خائبين ، فاطمأن قلبي ونمت ليلة بعد ليلة ، و (( شيريهان )) لا تفارق أحلامي قط .

ومضت الأيام والسنين ، وأدركت جميع محطات الحياة التي وعدت والدتي بالوصول إليها كي تخطب لي (( شيريهان )) ، ولكن حلمي لم يتحقق ، لأنني عشقت قبيلة من النساء ، وأنا أسير في دروب محطات العمر المتتالية بتعاقب السنين ، حتى غدت (( شيريهان )) شبح امرأة من ماض لم ألتفت إليه قط ، كي لا تذكرني بطفولة ساذجة قضيتها بين أحلام وأمنيات ضاقت مساحاتها في عقلي وقلبي مع كل يوم تتلمذت على ساعاته ودقائقه في تعلم تجارب وخبرات الحياة بتشعباتها ومنطقها المعاكس للإرادة والرغبة حين لا تقترن بالواقع .

(( شيريهان )) ترقد اليوم في بقعة ما على هذه الأرض ، وكم مضى من الأيام قبل لقائي الأخير بها على إحدى شاشات الفضائيات بعد ثورة يناير ، بملامحها الشاحبة وأنوثتها الطاعنة في الهرم قبل أوانها ، أحقا هذه هي المرأة التي لم تبارح أحلام قلبي قبل بلوغه سن الرشد العاطفي ؟

لماذا تذكرت والدتي وقصتي مع حسناء الفوازير ، وأنا أسترق السمع على حديث دار في ليلة من الليالي بين ولدي وزوجتي ، وهو يفشي بسره العشقي لـ (( سلمى )) التي لا يدرك أن اسمها الحقيقي هو (( مي عز الدين )) ؟ 

ولماذا تألمت من موقف زوجتي العدائي في إقصاء أحلام ولدي البريئة حين لطمته على وجهه ، وسحقت دماغه بقبضة يدها وهي تهدده وتتوعده بحرمانه من المصروف والخروج من المنزل إذا ردد على مسامعها مثل هذا الكلام السخيف مجددا ؟ 

هذه هي الحكمة التي نستخلصها من هذه القصة بالتحديد ، إذ لا يتوجب علينا إجهاض أحلام الآخرين ، وإنما تهذيبها وضبطها  وترويضها بما ينسجم مع مصالحهم على المدى البعيد في المستقبل ، فاحترام رغبات الأفراد حق مشروع لهم ، ما لم تكن لتؤذي حريات الآخرين ، أو كانت لتتجاوز خطوط التحريم في العقائد والأعراف السائدة في المجتمعات ، لأن حدوث ذلك يعني شذوذا وليس تمردا مشروعا على رتابة الواقع المفروض .  

Followers

Pageviews Last 7 Days