هل خبرة الحب هي طريق فهم الجنس الآخر ؟

نشأ (( وليد )) في أسرة متجانسة الجنس ، مهلا ما معنى هذا المصطلح ؟ عفوا أقصد أن أسرته تتكون من والده وأشقائه الذكور الثلاثة الذين يسبقهم عمرا و فكرا ، أما والدته فقد توفيت عند ولادة أخيه الأصغر ولم يكن هو حينها قد تجاوز العاشرة من عمره ، قد يعتقد البعض الآن أنني اقتبست مشهد هذه الأسرة من فيلم الفنان الكبير عادل إمام (( التجربة الدنماركية )) وصراحة لا أنكر إعجابي الشديد بهذا الفيلم وأنني كلما عرض على محطة تلفازية أكرر مشاهدته دون كلل ولا ملل .

عموما فكرة هذا الإدراج تنطلق من بيئة خالية تماما من الجنس اللطيف وهنا سأختلف مع الكاتب الكبير (( أنيس منصور )) عندما قال : (( الرجل هو الجنس اللطيف والمرأة هي جنس يا لطيف )) وسأردد مقولتي التي اقتنعت بها بعد هذا العمر من التجارب والخبرات : (( المرأة قد تكون كالفراشة التي تقترب من تويجات الأزهار بكل هدوء ولطف وحنان ، وقد تكون كالنحلة التي تسمع الازهار طنينها المزعج من مسيرة أميال )) ولكن هل أقصد بكلامي هذا أن الرجال هم الأزهار ؟ وهل هنالك من انسجام بين طبيعة الرجل الغليظة عموما وبين رقة الأزهار ؟ نعم يا أعزائي فالمرأة التي لديها مهارات أسلوب الفراشة تتمكن من جعل الرجل كالزهرة التي تتفتح أوراقها بكل فرح وسعادة لاستقبالها وتلبية حاجاتها من رحيق الحب ، أما المرأة التي تكون كالنحلة فهي لاتحفز تلك الزهرة على العطاء بل ترغمها على تلبية حاجاتها من رحيق تويجاتها لتتخلص من طنينها المزعج )) .

(( وليد )) خلال فترة مراهقته وقبل دخوله للجامعه لم يتحدث مع فتاة قط ، وذلك امتثالا لأوامر والده ووصاياه ، فلقد كان يحذره دوما من الانقياد وراء سلوكيات طائشة قد تؤدي إلى عواقب وخيمة وبخاصة في هذا الزمان الذي انتشرت فيه العلاقات غير البريئة بين أوساط المراهقين وما قد ينجم عنها من مذابح بشرية بين العائلات بمجرد معرفة أهل الفتاة بتورطها في مثل هذا النوع من العلاقات ، وقد يعتقد البعض أنني أبالغ في تصوير مخاوف ذلك الأب على ابنه البكر ، ولكن أعتقد أن احصائيات جرائم الشرف والمشاجرات الجماعية في مجتمعنا تؤكد أن مخاوفه في مكانها .

التحق (( وليد )) بعد ذلك بالجامعة والتي من المعروف تماما أنها البيئة المختلطة التي يعيشها معظم الشباب من أمثال (( وليد )) للمرة الأولى ، وهنا أصبح يقترب وبشكل تلقائي من مراحله الجنينية في اكتشاف طبيعة ذلك المخلوق الغريب عنه تماما والذي لم يكن يعرف عنه أي شيء لمدة عقدين من الزمان تقريبا ، ولكنه تمكن من المحافظة على الطريقة التي نشأ عليها وكان يعامل هؤلاء الفتيات وكأنهن متطابقات تماما مع فصيلة جنسه ، فكان يشبه بذلك شخصا هاجر إلى بلاد تختلف كليا عن طبيعة موطنه الأصلي في اللغة والعادات والتقاليد واعتقد أنه سينجح في مخالطتهم إذا اتبع نفس الاسلوب الذي كان يتبعه في بلاده ، ولكنه مع مرور الوقت بدأ يتعرف عليهم بشكل أفضل من خلال مراقبته لطرائقهم في الحديث والحوار وطبائعهم الحياتية المختلفة ، فتمكن من التأقلم والتعايش معهم بشكل أفضل وبدأ يستطيع تمييز الاختلاف في طبيعة كل منهما .

أنهى (( وليد )) حياته الجامعية دون أن يخوض في غمار أية علاقة حب ، والتحق في سلك وظيفة حكومية تتميز بالتواصل المباشر مع المواطنين ولم يحدث مطلقا نشوب أي نوع من الخلاف بينه وبين المراجعين سواء كانوا ذكورا أم إناثا ، وعاش حياة طبيعية جدا وعندما وجد في نفسه القدرة على الزواج ، طلب من عمته البحث له عن عروس ، وبالفعل ارتبط بأول فتاة اختارتها له ، ورزق منها بالبنين والبنات ، ومضى أكثر من عشرة أعوام على زواجهما والسعادة لم تفارق أسوار بيتهما أبدا ولم تتجاوز مشاكلهما خلال تلك الفترة مظهر سحابة الصيف التي سرعان ما كانت تختفي من سماء حياتهما .

وفي ذات يوم وبينما كان (( وليد )) في طريق عودته إلى المنزل بعد عناء يوم طويل من العمل الشاق ، بدأ يزجي طريق عودته بالتجوال بين قنوات مذياع سيارته ، فاستوقفه برنامج إذاعي يقدمه شاب وفتاة يتحدث عن مناقشة مواضيع مختلفة في العلاقات بين الرجال والنساء ، ولقد كان عنوان تلك الحلقة يدور حول سؤال هو : (( هل تعتقد أن على المرء أن يخوض في علاقة حب واحدة على الأقل قبل الزواج ؟ )) ولقد كان المذيع يؤكد على المتصلين هو وزميلته أن الهدف من مثل تلك العلاقات هو اكتساب الخبرة التي تساهم في إنجاح أية علاقة بعدها ورفضت المذيعة كافة آراء المتصلين الذين قالوا أن من الممكن اكتساب تلك الخبرة في فهم طبيعة الجنس الآخر من خلال علاقات الزمالة والصداقة وحتى العلاقات الاخوية في نطاق الاسرة بين الذكر والانثى ، إذ أكدت المذيعة أن تلك الخبرة لايمكن اكتسابها إلا من خلال علاقة حب حتى ولو لم تكن نهايتها الزواج ، وهنا ضحك (( وليد )) كثيرا ثم قال في سره : (( كم أتمنى الاتصال مع تلك المذيعة لأقول لها : كم هي نسبة الشباب الذين يقبلون بالارتباط بفتاة يعلمون أنها كانت على علاقة حب سابقة ؟ وإذا اصبحنا نعيش في مجتمع منفتح إلى هذا الحد وأصبحت الخبرة في علاقات الحب متطلبا لنجاح علاقات الزواج فهذا يعني أنكم ستتحدثون مستقبلا عن الخبرة الجنسية كمتطلب لنجاح الليلة الأولى في الزواج ، لست أدري حقا من المسؤول عن بث هذا الفكر المسموم بين أبنائنا وبناتنا الشباب )) .

أخو البنات

حكاية اليوم عن شخص يدعى (( أخو البنات )) ، قد يبدو لكم هذا اللقب غريبا بعض الشيء ، أو قد تعتقدون أنه لشاب وحيد في أسرته ترعرع بين أخواته البنات ، ولكن السبب الحقيقي لتلك التسمية جاءت من مواقف طريفة لازمته طيلة مشوار بحثه عن عروس خلال عقد من الزمان .

فبعد تخرجه من الجامعة ببضع شهور ، كانت علاقات والده كفيلة بتأمين وظيفة له في إحدى أكبر الشركات في القطاع الخاص وبراتب لايتقاضاه أقرانه الذين ليس لآبائهم مثل تلك العلاقات إلا بعد سنوات عديدة من الخبرات ، وهذا بالطبع يعتمد بالأساس على تحقق فرص التحاقهم بمثل تلك الوظائف وعدم وقوفهم أمام طابور البطالة الذي يزداد طولا مع كل دفعة تتخرج من الجامعات ، حقا لست أدري لماذا يصر قلمي على مشاغبته المعتادة و يعرج على مواضيع ليس لها علاقة في القصة ليحرجني مع أصحاب الإختصاص في طرائق احتساب المؤشرات الإقتصادية و التي تؤكد على أن معدلات البطالة لم ترتفع في السنوات الأخيرة بشكل مطرد ، عموما صديقنا (( أخو البنات )) منذ يومه الأول في العمل أثبت تفوقه في التواصل الإجتماعي مع كافة زميلاته الإناث ، فأصبح صديقا لهن على (( الفيس بوك )) واحتل اسمه موقعا مهما في دليل هواتفهن النقالة ، وبدأ ينظم لهن في عطلة نهاية كل أسبوع برنامجا ترفيهيا مدهشا في أماكن متنوعة من مولات ومقاهي ودور سينما ، و أصبح الحافظ الأمين لأسرارهن ، والواحة الهادئة التي تحط فيها خطى مشاكلهن ، والمرتع الخصب لبث شكواهن وآلامهن من قسوة العائلة و المقربين والأحباب ، كان خدوما ... ودودا ... يتحلى بكل صفات الشهامة العربية التي أصبح البعض يعتبرها في هذه الأيام نوعا من البلاهة والغباء لأن هذا الزمان لايشبه ذلك الزمان الذي لم تكن فيه تجارة الأقنعة الكاذبة التي يرتديها العديد من الناس قد ازدهرت بعد ، و لكنه في الحقيقة كان يرتدي قناع الشهامة أيضا ليتمكن من الظفر بقلب أية أنثى منهن ولكنه اكتشف وبعد فوات الآوان أن ذلك القناع جعله في عيونهن مجرد (( أخ )) ليس إلا ، وهكذا كلما كان يحاول مصارحة إحداهن باعجابه تقطع عليه الطريق لتقول له : (( رب أخ لم تلده أمك )) (( أنت مثل أخي تماما )) (( أنا مثل أختك فأرجوك أن تقف دوما إلى جانبي )) .

وعندما يأس من كل زميلاته في نطاق العمل ، قرر أن يبحث عن عروسه من بين بنات جيرانه اللواتي كانت والدته تحدثه عنهن دوما وتحاول إقناعه بالإرتباط بإحداهن وعلى مايبدو أنه استسلم أخيرا لمقترحات والدته التي وبكل أسف كانت تعود من بعد كل زيارة وهي تجر أذيال الفشل في الموافقة على طلبها بحجة أنهن يعتبرن صديقنا كواحد من إخوانهن تماما ، ولم يكن الحال أفضل عند محاولته لطرق أبواب قريباته سواء من طرف عائلة أبيه أو أمه ، فلقد كانت الإجابة تتكرر مع كل محاولة وبلسان واحد : (( إننا نحبه كحبنا لإخواننا لا أكثر )) .

هرب بعد ذلك من العالم المحسوس إلى عالم الشبكة العنكبوتية غير الملموس لعله يتمكن من إيجاد فتاة توافق على الزواج به دون أن تعتبره (( أخو البنات )) ولكن كل محاولاته ذهبت أدراج الرياح ، فدائما وبعد عدة لقاءات في غرف الدردشة مع أية فتاة ، ترمي له بالهدية المعتادة : (( كم تمنيت لو كان لي أخ مثلك )) .

ماذا يفعل ؟ لقد بدأ يخاف حتى من محاولة التفكير بالزواج لكي لا يواجه الموقف الأخوي المعتاد ، هل المرأة إذا صادفت شخصا من مواصفات صديقنا (( أخو البنات )) لا تستطيع تخيله في دور الزوج أبدا ؟ و لكن لماذا ؟ في الواقع صديقنا لم يجد الإجابة وأنا كذلك لم أتمكن من فك طلاسم هذا اللغز المحير ، ولذا قررت أن أصمت واستمع لمن يقرأ هذا الإدراج لعله يسعفنا بإيجاد السبب لمشاعر الأخوة التي تتدفق كالسيل الجارف في مثل هذه الحالات لتغرق كل محاولات الإرتباط الجاد من قبل الشباب من أمثال صديقنا (( أخو البنات )) .

المتلصص

هل سبق لكم أن شاهدتم شخصا لا يستطيع تناول ما يرغب من طعام أو شراب بسبب المرض ويستعيض عن ذلك بمشاهدة الناس وهم يأكلون ويشربون فيشعر حينها بنشوة لا مثيل لها ؟ إن صديقي المتلصص يعاني من مثل هذه الأمور ولكن مع بعض الفوارق الطفيفه .

ولكن كيف بدأت قصته مع التلصص ؟ وكيف اكتشف عدم مقدرته على الزواج بعدما تحققت لديه كافة شروط الباءة ؟ وهل من الممكن حقا أن يجد المرء نفسه عاجزا عن تحقيق أحلامه عندما تصبح حقيقه ؟

عندما كنا في فترة المراهقة الأولى كنا دائما نقول له وهو مرابط على سطح بنايته طيلة اليوم يتظاهر بممارسة هوايته المفضلة في تربية طيور الحمام والتي كانت ستارا يختبىء خلفه لممارسة عاداته التلصصية التي انقلبت فيما بعد إلى هوس ومن ثم إلى إدمان مرضي : (( كان الله في عون من ستتزوج فأنت شهواني بطريقة مرعبة )) ، لم نكن ندرك حينها ما سيؤول إليه حال صديقنا المتلصص في المستقبل وكيف ستنتهي ثورة فحولته بعد سنوات من العذاب والحرمان .

لا زلت أذكر طرائقه الإحترافية في التلصص عندما تنقل في عمله بين مجموعة محلات للألبسة النسائية ، إذ كان يضع مرآة في أعلى غرفة القياس تمكنه من افتراس عورة كل من يدخل إلى ذلك الكمين ، ولم يتوقف عند ذلك الحد فعندما عمل في أحد محلات بيع الألبسة الرياضية التي كان مشرفا فيها على قسم مسلتزمات السباحه ، اشترى كاميرا دقيقة جدا يصعب مشاهدتها بالعين المجردة وثبتها في غرفة القياس ليرافق بعيونه تلك المستلزمات أثناء رحلتها إلى الأجساد العارية .

ولقد كان من فرط دهائه التلصصي يتربص بالحمامات النسائية في الأماكن العامة والتي تمتاز بوجود فراغات بين جدران فواصل حجراتها من الأسفل ، فينتهز فرصة خلوها ويدخل أحدها ولايخرج حتى يشبع رغباته التلصصية المريضة من خلال عابرات السبيل في الحجرات المجاورة له .

وللمرضعات في الأماكن العامة حكاية أخرى ، فلقد كان إذا شاهد مرضعة يحوم من حولها كالأفعى حتى يصل إلى مكان يرتفع فيه نسبيا من خلفها فيتمكن من الوصول إلى مراده ، وكذلك الحال في المقاهي والمولات عندما كان ينتهز أية فرصة تلوح لمشاهدة عورة أية فتاة ترتدي قميصا قصيرا عند جلوسها أو عند انحناء أية امرأة ترتدي قميصا منكشف الصدر .

والغريب أن صديقي المتلصص في زمن العولمة وبعد زيارته للموقع الالكتروني الشهير (( you tube )) اكتشف أن هنالك العديد من أمثاله في كافة أرجاء العالم وبدأ يتعلم منهم المزيد من الأساليب الشيطانية في كيفية اقتناص مشاهدات العورات في مختلف الأوضاع والأماكن وأصبح يتواصل معهم في التعليقات والإقترحات وتبادل الخبرات المتراكمة من خلال التجارب التلصصية على مدار السنين والأيام .

أما الحادثة الأكثر طرفة وغرابة ، فهي عندما كنا نجلس في أحد مقاهي الإنترنت وتحديدا بعد دخول تلك المرأة الأربعينية الحسناء التي نضجت أنوثتها كفواكه الصيف تماما ، ولا أنكر أنني في تلك اللحظات كنت كصديقي المتلصص فلم أتمكن من مقاومة استراق النظر إليها ، ولكن الغريب في الأمر أنها جلست على الجهاز المقابل لنا بجانب رجل أجنبي لم يكترث حتى بإلقاء نظرة اكتشاف أولى عليها ، بعكس ماحدث مع نظراتنا التي كانت تنطلق كالسهام المشتعلة من كل حدب وصوب على حصون جسدها التي كانت يسيرة الإختراق من أكثر من موضع ، و لقد لاحظت أنها كانت تراقبنا بالطريقة ذاتها مما دفعني إلى حرج شديد ولكن ملامح وجهها لم تكن تبدي أية انفعالات غاضبة بل على العكس فلقد كانت على مايبدو سعيدة بحرب التلصص تلك ، ولكن المفاجأة كانت عندما لاحظ صديقي أنها قد اكتشفت أمره مما دفعه فورا للتوقف عن هوسه بشكل غير معتاد وإشاحة نظره عنها ، ولقد حاولت جاهدة بعدها أن تثير انتباهه إليها من خلال مجموعة من الحركات المفتعلة ولكنه لم يكترث لكل تلك الإغراءات ، مما دفعني تصرفه الذي أثار دهشتي إلى سؤاله عن سبب توقفه المفاجىء ، ليجيبني أنه لايشعر باللذة والمتعة إلا عندما يتلصص بالخفاء ومشاعر الخوف تجتاحه من عواقب اكتشاف أمره من قبل فريسته ، و تأكدت في تلك اللحظات بالذات أن مرحلة المراهقة الأولى قد تتسبب في حدوث العديد من العقد النفسية لدى الشباب والتي قد لايكترث الأهالي لمعالجتها أو حتى اكتشافها لاعتقادهم أنها نزوات صبيانية تتولد مع فترة البلوغ ودليل دامغ على فحولة طبيعية في المستقبل ولكن مايحدث في بعض الأحيان هو على النقيض التام لذلك تماما كما حدث مع صديقي المتلصص .

إجازة عيد دمشقية


غدا وبعد قرابة عام من الجفاء سيتجدد بمشيئة الله تعالى لقاؤنا يا (( دمشق )) ، حقا لست أدري كيف تمكنت من الابتعاد عنك كل هذا الوقت ؟ وأنا العاشق كحماماتك الدمشقية لساحات مسجدك الأموي الكبير ، أرجوك لا تعذليني على هذا الغياب ، فعدوى البخل في الإشتياق لم تتسرب لفؤادي بعد آخر زيارة لحديقة الجاحظ .

دعيني أركض كما في طفولتي بين أزقة حاراتك القديمة ، ودعيني أطفىء لهيب لوعتي بمياه نهر بردى ، و بنوافير ساحة الأمويين ، ولا تسأليني أبدا أية أسئلة استنكارية بعدها ، فأنت تعلمين في أي اتجاه سأمضي ، ليس إلى (( المزة أو الربوه )) وليس إلى (( المالكي وأبو رمانه )) وليس إلى شامك الجديدة في مشروع (( دمر )) وليس إلى أسواق (( الصالحية وشارع الحمرا )) ، و لن أعود إلى مدخلك الجنوبي من ساحة (( المرجه )) أو طريق سوق (( الحميدية )) ولن التفت خلفي وأذهب في جولة عابثة إلى شارع (( بغداد )) وصولا إلى (( القصاع وباب توما )) .

أنت تعلمين ما هو مكاني المفضل ، الذي أعشقه حد الجنون والتطرف ، إنه ماردك العملاق الأجمل ، الذي أجلس فوق أكتافه مطمئنا ، لأشاهدك تقبعين تحته بأضواء مآذنك وبيوتاتك وحاراتك وشوارعك وساحاتك ، إنني قادم يا جبل قاسيون ، فإن غدا لناظره لقريب .
إلى جميع الأحبة من زوار مدونة أفكار وتساؤلات ، أهنئكم بقرب حلول عيد الأضحى المبارك ، أسأله تعالى أن يعيده على الأمة الأسلامية باليمن والخير والبركة ، أنا مسافر في الغد بمشيئة الله تعالى إلى دمشق لقضاء عطلة العيد هناك ، أتمنى للجميع أوقاتا سعيدة وممتعة في هذه الإجازة ، ويتجدد لقاؤنا بإذنه تعالى بعد العيد .

كل عام وأنتم بألف خير

قلب فتاة بين الماء والنار

أنا اسمي (( ميس )) وسأروي لكم اليوم حكايتي التي تسببت في رحيل بصري وإلى الأبد ، فأنا لست كفيفة الآن بل كنت كذلك في الماضي ، فالأعمى في الواقع ، ليس من لايبصر الأشياء بعيونه بل هو الذي لا يتمكن من تمييز الصحيح من الخاطىء .

لقد كنت مهندسة معمارية متميزة وأنا لم أتجاوز السادسة والعشرين من عمري بعد ، موهوبة ومثابرة ومجتهدة ، مما كان يجعلني دوما محورا جوهريا لنظرات الإعجاب والاهتمام من قبل كافة زملائي المهندسين ، وبالطبع فإن أنوثتي كانت تحتل مرتبة الصدارة بين كافة زميلاتي في المكتب ، وليس هذا وحسب ، بل كنت أيضا أهزمهن جميعا في ثقافتي ومعرفتي في كافة أمور الحياة الأخرى ، وهذا ما جعلني أحتكر كافة الفرص المتاحة لمشاريع عروض الزواج المحتملة ضمن نطاق الحدود الجغرافية لمكان عملي .

كان في مكتبنا خمسة مهندسين ، ولكنني لم أكن منجذبة إلا للمهندس (( هيثم )) ذلك الشاب الأسمر ، طويل القامه ، ذو العينين العسليتين ، و الابتسامة المربكة التي تهوي بي في حفرها العميقة المنغرسة على وجنتيه ، وماذا أقول عن أناقته وهندامه ؟ بل ماذا أقول عن رائحة عطره ؟ تلك التي كانت بمجرد مداعبتها لأنفي أشعر بتقلصات في جدران قلبي كتلك التقلصات التي تصيب المعدة بمجرد انبعاث رائحة طعام لذيذ بعد ساعات من الجوع الشديد ، لقد كان (( هيثم )) جادا في عمله ولم يكن يشاركنا في وقت استراحة الغداء ، كان قليل الكلام خارج أطر التصاميم الهندسية ، ولكن ذلك لم يمنع زميلاتي في العمل من اتباع مختلف المكائد النسائية لمعرفة بعض التفاصيل عن حياته الشخصية ، إلا أن ملامح وجهه أمام ذلك الاهتمام النسائي لم تكن تظهر أية انفعالات بنشوة ذكورية ، تماما كملامح وجه الدمية التي لا تتغير مهما حاولنا مداعبتها .

لقد كانت نيران الرغبة في داخلي تتأجج في الارتباط بذلك الشخص ، ولكن كيف سأخبره بذلك ؟ إن الأدوار في مسرحية الحب لا يمكن أن تتغير ، فأنا المرأة وهو الرجل ، فكيف أتقمص دوره وأبادر بالخطوة الأولى في البوح ؟ كلا فلقد حاولت أن أرسل إليه العديد من الرسائل الغرامية في نظرات عيوني وأعتقد أن ذكائه لم يخنه في إدراك ذلك ، و إن عدم قيامه بأية خطوة إيجابية إنما هو دليل على عدم اكتراثه ، لن أفكر به بعد الآن ، وسأتخذ قرارا لارجعة فيه ، نعم سأتجاهل وجوده .

وبينما كنت أعيش في خضم هذا الصراع مع ذاتي في تجاهل انجذابي نحو (( هيثم )) ، كان زميلي المهندس (( فراس )) يدعوني لحديث خاص ، وفي الواقع فإنني لم أتفاجأ كثيرا من دعوة (( فراس )) ، ذلك الشاب المتوسط القامة ، ذو العينين الزرقاوتين الواسعتين ، والشفتين الغليظتين اللتين لا تنطبقين من كثرة ثرثرته وكلامه السخيف ، ومع أن زميلاتي في المكتب كانوا معجبين بخفة ظل (( فراس )) وتعليقاته اللاذعة التي تفجر الدموع في عيونهن من كثرة الضحك ، ولكنني لست أدري لماذا كنت كلما أنظر إليه أتخيل صورة المهرج في السيرك والذي يبذل مجهودا خارقا لإضحاك الجمهور من حوله وخصوصا الأطفال ، وبالفعل فلقد كان (( فراس )) ذلك المهرج وكانت زميلاتي أشبه بجمهور الأطفال في السيرك .

ماذا عساي أن أفعل ؟ هل ألبي دعوة (( فراس )) ؟ لقد كنت في حيرة شديدة من أمري ولكنني عقدت العزم على القبول ، على الرغم من عدم إنجذابي إليه إطلاقا ، ولكن ما الذي دفعني إلى ذلك ؟

هل هي رغبة عارمة في الفضول للغوص في أعماق ذلك الشخص واكتشاف مكنونات نفسه الخفيه التي قد تختلف عن انطباعاتي الأولية التي كونتها عنه ؟

أم هي محاولة للإنتقام من (( هيثم )) وإحراق قلبه بنيران الندم على تجاهله وعدم اكتراثه ؟

بدأت لقاءاتي مع (( فراس )) تتجدد الواحدة تلو الأخرى ، وبالفعل وجدت فيه الكثير من الصفات الحميدة التي لم أكن أتوقعها ، ولربما كان من أهم الأسباب التي جعلتني أقرر الارتباط به ، هو ذلك الحب الكبير الذي كنت أقرأ رسائله وخطاباته في كل نظرة من نظرات عيونه ومع كل حركة من حركات جوارحه وكأنها تكاد تنطق كلسانه تماما لتقول لي : (( كم أحبك )) ، وإنني أمام كل تلك المشاعر كنت أتذكر مقولة والدتي : (( تزوجي بمن يحبك ولا تتزوجي بمن تحبين )) ، ولقد كانت حجتها دوما في ذلك ، أن الرجل يفرط في دلال المرأة التي يلهث قلبه في اللحاق بها ولايكون كذلك أمام المرأة التي يفضح الحب ضعفها وانكسارها في استجداء محبته .

اليوم هو الثلاثاء ، إنه الموعد الذي انتظره (( فراس )) طويلا ، وحاولت أنا الهروب منه كثيرا ، أنه يوم عيد ميلادي الذي يتزامن مع قراري في تحديد موعد خطبتي على (( فراس )) ، كنت أشعر بضيق شديد في نفسي ، متعبة ومجهدة ، وأطرافي لا أتمكن من تحريكها وكأنها أصيبت بالشلل ، كنت بالكاد ألتقط أنفاسي والعرق يتصبب من وجهي ، وشعرت بحالة مريعة من الغثيان وبرغبة في التقيؤ ، وما كان رأسي في وضع أفضل ، فلقد لازمتني آلام صداع مخيف وشعرت وكأن هنالك شخص يجلس فوق رأسي يضربه بإزميل من حديد في كافة الاتجاهات ، كنت أتمنى الموت في تلك اللحظات ، ولكن مشهد تلك الآلام انقلب رأسا على عقب في ثوان معدودات ، بعد أن امتدت نحوي يد سمراء بمنديل ، رفعت رأسي ، ونظرت لا أصدق عيوني ، إنه (( هيثم )) .

- ماذا بك يا ميس ؟ تبدين متعبه .

- لا ... لا ... أنا بخير .... أشكرك على سؤالك .

- ميس لقد كنت أنتظر هذا اليوم لأتحدث معك بعد العمل في مكان ما ... فهل تقبلين دعوتي ؟

- ولكن ماذا تريد مني يا هيثم ؟

- ليس الآن ... وليس هنا .... لابد أن نكون بمفردنا .

- حسنا سأراك في (( سيتي مول )) عند الساعة السادسة .

يا آلهي ماذا فعلت ؟ كيف قبلت دعوة هيثم وأنا مرتبطة بموعد مصيري مع (( فراس )) عند الساعة السابعة في (( مكه مول )) ؟

كانت الأفكار تتلاطم في رأسي كأمواج البحار المتتابعة نحو الشاطىء ، أما مشاعري فكانت مختلطة مابين فرح وفضول وترقب ، ومابين خوف وحزن وخيبة رجاء ، تماما كما في كوب عصير من الفواكه السكرية الطعم والتي امتزجت مع فواكه أخرى بمذاق حامض .

ولكنني سأتخذ قراري بالموافقة على طلب (( هيثم )) بالارتباط وبدون أدنى تردد في حال مصارحته لي بذلك ، وسأذهب بعدها للقاء (( فراس )) وانسحب من حياته بكل ود وهدوء ، أما إذا كان (( هيثم )) غير جاد في رغبته بالارتباط وكان يبحث عن تزجية وقت فراغ رغبته كيفما اتفق ، فسأرحل مسرعة إلى لقاء (( فراس )) وسأوافق على طلبه بالزواج مني وبشكل قطعي ، وبالفعل ذهبت إلى اللقاء الأول وأنا في قمة سعادتي تماما كالطير الذي خرج من قفصه للتو ليحلق عاليا في سماء السعادة التي كان يبحث عنها دائما ولكنني كنت أيضا أشعر بالخوف من التحليق في تلك السماء فأصادف نسرا جائعا يلتهمني بدون رحمه ، تماما كما يحدث مع العصفور الذي يعود من فرط خوفه إلى القفص مجددا .

تبددت كل مخاوفي بعد رؤية (( هيثم )) ، لقد كان أنيقا كعادته ، رائعا في مظهره وهيبته ، إنه الرجل الذي لم أتمنى له بديلا في حياتي ، تبادلنا سلاما مثيرا تعانقت فيه أكفنا بحرارة تكاد تصل إلى درجة الغليان ، وجلسنا نحدق ببعضنا وكأننا نلتقي للمرة الأولى ، لم نتمكن من الكلام ، فعيوننا تحدثت و أسهبت في وصف نبضات قلوبنا التي كانت تعزف مقطوعة عنوانها لقاء حبنا الجميل الذي طال انتظاره .

وفجأة سمعت صوت صراخ من بعيد ووقع خطوات تجري بسرعة هائلة كصوت حوافر الخيول في مضمار السباق عندما تخترق مسامع المشجعين المتواجدين بالقرب من نقطة النهاية ، فالتفت مذعورة خلفي لأجد (( فراس )) في هيئة لم أشاهدها عليه من قبل ، فبشرة وجهه البيضاء قد أصبحت شديدة الإحمرار ولكن ليس بفعل نوبة خجله المعتاد أمامي بل بسبب عاصفة غضب هوجاء غير مسبوقة ، وعيونه لم تكن تتحرك في مدارها مضطربة كما في كل لقاء تتقاطع فيه عيوننا بل كانت تقدح شرارا كعيون قطة توحشت ولم تعد تهاب شيئا .

رمى (( فراس )) الهدية التي كان قد حضر خصيصا إلى (( سيتي مول )) لشرائها لي ، وأمسك بالمقعد الخشبي الذي كان بجواري بلمح البصر ، وبدأ يضرب به رأسي كالمجنون ، أما (( هيثم )) فلقد كان أسيرا بين جنود (( فراس )) الذين حضروا معه لشراء الهدية ، ولم أدري ماذا حدث بعد ذلك ، لأنني عندما استيقظت لم أشاهد إلا الظلام ، وأدركت حينها أنني كفيفة البصر الآن ولكنني لن أكون كفيفة البصيرة بعد الآن ، فمشاعر الأشخاص الذين لانبادلهم الحب ليست كدمية تشتريها لنا الأيام وتقنعنا بجمالها فنزجي وقتنا باللعب فيها و من ثم نلقي بها دون شفقة في سلة المهملات عندما نقتني الدمية التي كنا نحلم بها دوما .

قصتي مع قلعة عجلون

عندما كنت اقترب في مشوار عمري من نقطة الربع قرن ، كانت لي طقوس لا أتخلف عن ممارستها بعد منتصف ظهيرة كل يوم جمعه ، فبعد تناول وجبة الغداء التي لا يتغير المقطع الأول من اسمها (( مقلوبة زهره أو باذنجان أو فول )) ، وبعد أن أحتسي كوبا عملاقا من القهوة المكتظة في أعماقها بالبن والسكر ، أسرع بالتوجه إلى مركبتي وانطلق في رحلتي الأسبوعية المعتادة .

أعبر شوارع العاصمة عمان التي تكون حركة السيارات فيها كالسيل الخجول شبه الراكد ، فتتابع أعصابي قيلولتها على سرير من الهدوء والسكينة ، وأودع مدينة الجبال السبعة عند (( دوار صويلح )) متجها إلى الشمال الغربي منها .

وقبيل الوصول لمنطقة ( الرمان ) تصبح الطريق شديدة الانحدار نحو الأسفل ، مما يجعل أعصابي تتململ كمن يوشك على الاستيقاظ من نومه ، ولكنها سرعان ما تأخذ نفسا عميقا وتتابع قيلولتها بمجرد رؤية الجبلين العظيمين المتقابلين عند نهاية المنحدر ، وقد انغرست فيهما بكثافة أشجار الصنوبر الخضراء ، مما يجعل لساني أمام جمال وروعة ذلك المشهد البديع ينطلق في ترديد كلمتين دون توقف (( سبحان الله )) .

أتابع المسير بين ارتفاعات وانحدارات ، وعندما أقترب من المدخل الجنوبي لمدينة (( جرش )) لا أفوت مشاهدة مياه (( سد الملك طلال )) و التي تفترش كالبساط الأزرق في أسفل الوديان ، وأسأله تعالى أن يرتفع منسوب السدود بأمطار الخير والبركة مع كل موسم أكثر وأكثر .

بمجرد دخولي لمدينة (( جرش )) تبدأ رائحة شواء اللحم المنبعثة من مداخن المطاعم المنتشرة على جانبي الطريق بمداعبة أنفي ، ولكنها لا تتمكن من إثارة لوعة معدتي المنهمكة بهضم (( المقلوبه )) ، وعندما أصل إلى مفترق الطرق الذي سيقودني إلى (( عجلون )) أتوقف عند الإشارة الضوئية التي تتواطؤ بشكل عفوي وغير مقصود مع البوابة الجنوبية لآثار المدينة الرومانية القديمة ، فتعود بي الذكريات إلى حفلات ماجدة الغناء العربي في مهرجان (( جرش )) للثقافة والفنون ، ذلك الزمن الجميل للفن الأصيل ، عندما كانت مسارح (( جرش )) تستقطب الأدباء والشعراء والفنانين المسرحيين وفرق الرقص الاستعراضي من كافة أقطاب الدنيا ، كنت في بداية العقد الثاني من عمري في ذلك الحين ولكنني لا أزال أذكر كل تلك التفاصيل ، وأذكر صوت (( ماجدة الرومي )) في الحفلة التي قدمت فيها لأول مرة رائعتها (( سقط القناع )) على المسرح الجنوبي وهتاف الجماهير العريضة معها على المدرجات بصوت واحد : (( فإما أن تكون أو لا تكون ... فأنت الآن حر وحر وحر )) .

أستيقظ من غفوة تلك الذكريات الجميلة على صوت (( زمامير )) السيارات الغاضبة من خلفي بعد أن يسقط الضوء الأحمر للإشارة من عدستها العليا إلى عدستها السفلى فيتوهج متأثرا من تلك السقطة باللون الأخضر ، ولا يسعني حينها إلا أن ألقي تحية الوداع على (( جرش )) بتنهيدة عميقة وانحرف في طريقي باتجاه الغرب قاصدا مدينة (( عجلون )) .

وبعد أن أتجاوز حزمة من السلاسل الجبلية الخضراء المدهشة في جمال طبيعتها الخلاب ، يلوح في الأفق ذلك الجبل الشاهق في الارتفاع حيث تربض فوق قمته (( قلعة عجلون )) ، تلك التحفة المعمارية الإسلامية التي بناها (( عز الدين بن أسامة بن منقذ )) أحد قادة الناصر صلاح الدين الأيوبي والتي تم بناؤها في القرن الثاني عشر للميلاد لتكون نقطة انطلاق لجيوشه المتوجهة صوب عروس المدائن (( القدس )) .

كنت بمجرد دخولي لبوابة القلعة أسمع صوت هؤلاء الأبطال الذين أقاموا فيها في يوم من الأيام ، بل كنت أتطرف في توحدي مع ذلك العصر لدرجة أنني كنت أتخيل عثوري على آلة الزمن التي تأخذني إلى تلك الأيام ، فأعيش كل تفاصيلها وبطولاتها لحظة بلحظة ، وكم كنت أشعر بنشوة لا يمكن وصفها في متن أية حروف وأنا أقف على سطح أسوار تلك القلعه وكأنني أستطلع أخبار مدينة القدس وأشاهدها أمامي في تلك اللحظات ، وكم كنت وأنا أتجول بعيوني بين سلاسل الجبال التي تحيط بالقلعة من كل الإتجاهات وقد اكتست بأشجار الصنوبر والبلوط والسنديان ، أسأل نفسي عن السبب الذي يجعلني أقف هنا في كل يوم جمعه ؟

في هذه الأيام لم تتغير طقوسي في يوم الجمعه ، فلا يزال الاختلاف على تسمية المقطع الثاني من (( المقلوبه )) قائما ، ولازلت أحتسي كوب قهوتي المعتاد ، إلا أنني انقطعت عن زيارة (( قلعة عجلون )) فبورصة النفط جعلت سيارتي لا تتحرك إلا عند الضرورة القصوى ، ولست أدري فقد تكون بورصة القهوة والأرز واللحوم والزهرة والباذنجان والفول سببا في تغيير طقوسي الأخرى ، ولكن المحبة الصادقة لثرى فلسطين و الأردن ووطني العربي الكبير لن تخضع في يوم من الأيام لقوانين بورصات الكلام والاستعراض ، فالمحبة الحقيقية أفعال وليس أقوال .

احتقار الغريزه

صديقي (( الدنجوان )) رجل ذائع الصيت بين الأوساط الأنثوية من مختلف الأعمار ، يمتلك متجرا للألبسة النسائية في منطقة الصويفية الواقعة غرب العاصمة عمان ، ولقد كان شغف النساء بمظهره وأسلوبه في البيع ، يجعل مبيعات متجره دوما هي الأعلى بين منافسيه ، فلا الوضع الاقتصادي السائد ولا الفترات الزمنية الفاصلة للمواسم والمناسبات تؤثر على مبيعاته المزدهرة طوال العام .

وبعد سنوات عديدة من مشواره (( الدنجواني )) الذي لم يكن له من مثيل ، كانت فجيعته بموت والده الذي كان يحبه حبا شديدا ، فتذكر نصائحه التي لطالما كان يسأم من سماعها ويستعجل طردها من إذنه اليسرى بمجرد دخولها من بوابة أذنه اليمنى ، تلك النصائح التي كانت تدعوه إلى الزواج والاستقرار والابتعاد عن تلك الممارسات الصبيانية التي ستودي به حتما إلى طريق الهلاك في الدنيا والآخره .

وتزوج (( الدنجوان )) وقطع عهدا على نفسه أن ينسلخ عن ماضيه ويبدأ مشوار الحياة من جديد ، و قرر الابتعاد عن كل أجواء الفتنة التي كانت تثير شهواته وغرائزه .

وفعلا بدأت مظاهر التغيير بالظهور على (( الدنجوان )) في كافة جوانب حياته ، من التقيد بالصلاة في مواعيدها ، من غض البصر وحفظ اللسان ، حتى أنه أصبح يتجنب المواجهة المباشرة مع زبائنه ، وذلك بعد أن اعتزل بنفسه في مكتبه على الطابق الثاني للمتجر ، و بات يجلس فيه طوال الوقت ، ليترك مهمة البيع التي كان مهووسا بها للموظفات العاملات لديه .

و في أحد الأيام وبينما كان (( الدنجوان )) جالسا على مكتبه يقرأ في رواية تتحدث عن الصراع بين الغرائز والقيم الإنسانية العليا ، سمع صوتا مطابقا تماما لصوته شرع بمناداته ، فالتفت مذعورا خلفه ، فوجد شخصا يشبهه في أيام (( دنجوانياته )) حد التطابق ، كان جسمه يشبه عارضي الأزياء ، تناسق وتناغم بين نصفه الأعلى ونصفه الأسفل بعكس ماهو عليه حاليا من تضخم نصفه الأعلى وانتفاخ بطنه كالمرأة التي في منتصف فترة حملها ، أما شعره الأسود المتلألأ الطويل الذي تنسدل منه خصلات تلامس حافة حاجبه الأيمن ، فيختلف كثيرا عن مظهر شعره القصير الذي فقد بريقه ولمعانه و امتزج بمساحات شاسعة من اللون الأبيض ، لقد كان وجهه مشرقا بالحيوية والشباب بينما وجهه الآن يشبه الرجل العجوز الذي ينتظر لحظة رحيله إلى ديار الحق .

قال له (( الدنجوان )) : من أنت ؟

فأجاب : أنا غريزتك التي تحتقرها وتلعنها بالسب والشتم في كل يوم وليله .

- أنت شيطان ابتعد عني .

- لقد ابتعدت عنك بالفعل وها أنا الآن أصبحت شخصا مستقلا عنك .

- إذن اغرب عن وجهي .

- لا أستطيع فأنا جزء لا يتجزأ من تكوينك الخلقي .

- وماذا تريد مني الآن ؟ .

- أريد أن أسألك عن سبب احتقارك لي بهذه الطريقة ؟

- حسنا أنت مصدر كل شر وأثم لي في الماضي وحتى بعد زواجي كنت تلاحقني وتطاردني دائما ولذلك وجدت أن أفضل الطرائق للتخلص منك هو احتقارك والاشمئزاز منك و كان سبيلي لتلك الغاية هو افتراض أنك غير موجود وهذا ما جعلني بالطبع أفترض أيضا عدم وجود مايسمى بالنساء ، فقررت أن اعتزل زوجتي أيضا حتى أرتاح منك ومن شرورك .

- دعنا الآن من هذا الحديث وقم بتشغيل شاشة الحاسوب .

- لماذا تريدني أن أفعل ذلك ؟

- ألا تهتم لشؤون عملك أيضا ؟

- بلى .

- إذن ألا تريد مراقبة سير العمل في الأسفل ؟ إن عدم اكتراثك بذلك قد يؤدي إلى عواقب وخيمة ، ألا تؤمن بمقولة : (( المال السايب بيعلم السرقة )) .

- معك حق ... معك حق ... لابد من تشغيل كاميرات المراقبة لأرى مايحدث في الأسفل .

وبمجرد قيامه بتشغيل الشاشة التي أنقسمت إلى ستة مربعات يمكن من خلالها مشاهدة الأقسام المختلفة للمتجر .

يصرخ رجل الغريزة قائلا : انظر .... انظر بسرعة إلى المربع الذي في أقصى اليمين .

يلتفت (( الدنجوان )) إلي المربع الذي أشار إليه فيجد امرأة متوسطة العمر تتفحص القمصان على المشجب ، فيقول له : لا أرى شيئا يستدعي الاهتمام .

فيقول رجل الغريزة : ماذا ؟ انظر إليها مليا إنها من نوع النساء الذي كان مفضلا لديك في الماضي ، البشرة ذات اللون الحليبي الأبيض ، الطول المتناغم مع جسد ممتلىء ، العيون العسلية ، الشعر الأسود الناعم كالحرير .

- اصمت ... اصمت ... كفى يا حقير .... توقف عن إغوائي .

- العيون العسلية .

- قلت كفى أنت حقير .... أنت مشمئز .... أنت لعنة ما بعدها لعنه .

- العيون العسلية .

- هذا هو السبب الذي دفعني للإعتزال لأنني كنت أعلم تماما أن وجودك في حياتي سيجعلني تافها وسخيفا طوال حياتي ولن أرقى أبدا إلى القيم الإنسانية العليا ولن أتحلى بمكارم الأخلاق .

- العيون العسلية .

واستمر (( الدنجوان )) بالصراخ دون توقف وهو يقول : ابتعد .... ابتعد .... ابتعد ، حتى حضرت إحدى الموظفات مسرعة إليه لتستطلع مايحدث وعندما وصلت إليه ، وجدته غارقا في سبات عميق ، فاقتربت منه وأيقظته ، فنظر إليها وكأنه لا يصدق أنه كان يحلم ، وطلب منها أن تحضر له كوبا من الماء .

Followers

Pageviews Last 7 Days