هذيان الثانية والثلاثين

أبعد ميزان السنين ، فأنت تعلم أين سيستقر مؤشره ، لا توجد حبوب خافضة للعمر ، ودرجة أعوامك لن تهبط بعد اليوم عن الثانية والثلاثين .

يطمئنك الحلاق بأن رأسك لايزال حصنا منيعا في وجه المتمردين على وحدة لونه الأسود ، ويؤكد لك أنك تحبط وبكل شجاعة مخططات الصلع في تفجير بصيلات شعرك .

يرجوك أولاد الحارة لتلعب معهم مباراة كرة قدم في ملعب الشارع الدولي ، فتخلع رداء وقار عمرك ، في سبيل ابتسامة ترتسم على جدران قلوبهم الناصعة بالبراءة والنقاء ، وبعد تسجيلك للهدف العاشر في نزالك غير المتكافىء مع حارس المرمى ، تقنع نفسك أنك لا تزال صبيا في مقتبل العمر .

تنظر إلى المرآة وتقارنها بصورتك قبل عقد من الزمان ، وتسأل نفسك : (( ما الذي تغير ؟ )) ، فلا تجد أية إجابات حاسمة لتساؤلك ، مع أنك تدرك تماما أنك تبحث في المكان الخاطىء .

تسألك زوجتك بابتسامة استنكارية : (( كم أصبح عمرك ؟ )) وتداهمك قبل محاولتك للإجابة بحيرتها المصطنعة ، إن كنت قد وصلت للمحطة الثالثة والثلاثين في مشوار عمرك ؟ أم أنك رحلت للتو في طريقك إليها ؟ تستشيط غيظا من سخريتها ، وهي التي لا تزال في طريقها إلى محطة الربع قرن ، ولكنك تتظاهر أمامها بعدم الاكتراث ، وتكاد تقسم لها أنك تعبر محطات العمر دون الالتفات إلى أرقامها .

تقبل يد والدتك التي تبتسم بخوف وهي تبارك لك ظهور رقم جديد في خانة عمرك ، وتقول لك : (( أنت آخر العنقود ، فإياك أن تكبر أكثر )) ، وتتأكد حينها أن المرأة تبدأ بالخوف من الشيخوخة والموت ، كلما أضاف أصغر أبنائها رقما جديدا إلى مجموع سنوات حياته ، ولكن هواجسك عن الشيخوخة في تلك اللحظات تغفو في سبات عميق ، بعدما تتذكر مقولة قرأتها في يوم من الأيام : (( يظل الرجل طفلا حتى تموت أمه ، فإذا ماتت شاخ فجأة )) .

تناديك ابنة شقيقتك : (( يا خال ... ما هو رقم هاتف خالتي ؟ )) ، تجيبها وبكل ثقة على المقطع الأول ، وتتلعثم في المقطع الثاني ، وتستسلم عند المقطع الأخير وبكبرياء زائف ، معللا أن التكنولوجيا تسببت في ضمور وظائف ذاكرة الإنسان ، ولاتجد مناصا إلا باستجداء ذاكرة هاتفك المتعاظمة في القوة والسرعة ، لتنقذك من مأزق اكتشاف الآخرين لأداء ذاكرتك الذي بدأ يسير بخطوات معاكسة لخطوات عمرك .

ولكنك أقنعت نفسك بعد ذلك أن استرجاع بيانات الأرقام ليس معيارا حقيقيا لقوة ومتانة ذاكرتك ، فالعديد من الأشخاص في هذه الأيام يكتفون بحفظ أسماء من يرغبون بالاتصال معهم ويتركوا مهمة حفظ الأرقام لكبسة زر واحدة من هواتفهم ، وتتنفس الصعداء حينها ، وتخرج برفقة صديقك إلى جولة في أحد المولات ، وتشاء الظروف أن تتصادف هناك مع محام كان زميلا لك في عملك السابق ، والذي تركته قبل ثلاث سنوات ، ولكنك وعند لحظة السلام تدرك أنك عاجز عن تذكر اسمه ، فتتحايل عليه وعلى نفسك بخدعة الوقار والإحترام قائلا : (( أهلا يا أستاذ )) .

وتتوالى الصدمات غير المتوقعة عندما يقاطع الجار حديثك عن تفاصيل حادثة سرقة مضخات المياه من العمارة ، ويخبرك أنك تسردها له وللمرة الثالثة خلال هذا الأسبوع ، فتتدارك الموقف مبتسما : (( كنت أود التأكيد لك على وقوعها فقط ، فلقد سمعت أن مالك العمارة أنكر حدوثها ، وكنت أخشى أن تكون قد صدقت كلامه )) .

واليوم لابد من الاعتراف أنك كنت تعتقد استعجال النساء فقط في تقليب صفحات أعمارهن عند فصول الطفولة والمراهقة ، وتمهلهن دون جدوى عند صفحات فصول الشباب التي تطوى رغما عنهن .

فهل ستظل تخدع نفسك أيها الرجل وتدعي أنك لست مثلهن في طريقة قراءتك لكتاب الحياة ؟

Followers

Pageviews Last 7 Days