الخطوط الحمراء

في الماضي ، كلما ذهبنا لحضور ندوة ثقافية لأحد اليساريين ، كنت اشترط مسبقا على زميلتي في الجامعة أن لا ترتدي اللون الأحمر ، وكم كنا نتشاجر بسبب ذلك ، فهي يسارية حتى النخاع ، وأنا كالفحل أخور غاضبا بمجرد رؤية ذلك اللون ، ولكنها كانت تنهي سجال مجادلتنا دوما ، وتخمد نيران سلوكي الهمجي تجاه اللون الأحمر ، عند تذكيري به كرمز لدماء الأبرياء التي أريقت على هذه الأرض منذ بدء الإنسانية دون وجه حق .

ولكن لعنة اللون الأحمر ظلت تطاردني عند انعقاد كل قمة من قمم الدول العربية ، إذ كان لابد لي من مشاهدة ذلك اللون يحتل حيزا من تصميم أعلامها ، ومع أنها لم تكن ترفرف عاليا إلا في تلك المناسبات ، ولكن ذلك كان يستدعي خواري على الفور ، ولهذا ارتأيت أن أعلن مقاطعتي عن متابعة كل تلك الوديان السحيقة ، عفوا ، القمم الشامخة لإرادة دول لم تكن تختلف عن أحجار الشطرنج بيد الغرب ، تتلاعب بتحركاتها بمهارة تفوق مهارة (( كاسباروف )) في تلك اللعبة .

أما في عيد الحب ، فقد كنت دائم الانعزال في المنزل ولا أغادره قط ، إذ لم يكن لدي القدرة مطلقا على مشاهدة اللون الأحمر وهو يغزو المحلات التجارية وملابس المارة في الطرقات ، وكم كانت امرأتي تستاء من تصرفاتي الانعزالية في ذلك اليوم المتعارف عليه عالميا بأنه فرصة العشاق الذهبية لتجديد عهود محبتهم ، بل إنها كانت لا تنفك عن نقدها وهجومها لموقفي المضاد من اللون الذي يرمز للحب ، فما كان مني إلا أن أجيبها ولكن بدون خوار : (( بل هو رمز للخطر يا عزيزتي )) .

ومع مضي الأيام ، أصبح للون الأحمر دلالات في غاية الأهمية ، وخاصة عندما بدأ يقترن بالخطوط ، وإنني أذكر أن أول مشاهدة التصقت بذاكرتي لتلك الخطوط الحمراء ، وهي تتوسط علم الولايات المتحدة الأمريكية ، والتي يحاول بعض جحافلة المفكرين والسياسيين والقادة العرب ، التأكيد على أنها بلاد ديكتاتورية ، وليس لدى شعبها سقوف حريات للتعبير عن الرأي والاعتراض على سياسات حكامها ، فما كان مني ، سوى قيامي بخرق طبلة أذني كي لا انزعج من أصوات ادعاءاتهم (( النشاز )) ، معتقدا أن الخطوط الحمراء هي رمز للحرية الشخصية واحترام لإنسانية الإنسان .

وما أن بدأت الثورات تندلع في مختلف البلدان العربية ، حتى بدأت اسمع وأقرأ عبارة (( الخط الأحمر )) في مختلف الخطابات المنادية بالإصلاح ، فتفاءلت خيرا ، وظننت أن اعتقادي بالخطوط الحمراء كان صحيحا عند مشاهدتي له في علم (( أمريكا )) للمرة الأولى ، وقررت أن أتصالح مع اللون الأحمر الذي كنت معاديا له طوال حياتي .

ولكنني اكتشفت كم كنت مخطئا في نظرية تلك الخطوط ، عندما تم تسطيرها بين حروف وكلمات النخب السياسية والفكرية في دولنا ، فهي لم تكن متلازمة مع حرية التعبير عن الرأي ، بل كانت خطوط نار يحترق فيها كل من تسول له نفسه بمخالفة ما يسبقها من أوامر ، وليس هنالك من ضرورة البتة لذكر أمثلة تفصيلية عليها ، إذ أن الخطوط الحمراء في الدول العربية ستجدها مقترنة دوما مع أوامر النهي عن خوض غمار أي حديث قد يطالب بتحقيق كرامة الإنسان .

Followers

Pageviews Last 7 Days