لا منتمي

إن قرع الطبول ودق المزامير في عالمنا العربي ، يكون مقترنا دوما بالفكر الجمعي المعشعش في عقول الناس منذ ولادتهم ، ولذلك فلا تثريب على من ينوء بنفسه وبأفكاره ، ليقف على الرصيف الخالي من المشاة ، ويبدأ بالهتاف معتقدا أن صوته سيدفع بالبعض إلى محاولة التخلي عن الرصيف المزدحم بالمارة ، وعبور الشارع مخاطرا بكتابة السطر الأخير في حياته بحادث سير ، تحت إطارات ما يدعى بمركبات الدفع الرباعية المقاومة للتغيير .

بل إن الخاروف الدسم الذي يفكر بالتمرد على القطيع ، والرحيل خارج نطاق حدود المرعى المحدد له سلفا بخطوط رملية من عصا الراعي السحرية ، حتما سيقضي نحبه على أيدي الذئاب المترصدة به خارج الحمى ، وهذا ما يحاول كبار الخراف دائما تلقيمه لصغارهم ، مقترنا بتذكيرهم أن هذا الإحتمال قد يحدث في حال نجاتهم بالبدء من قبضة كلب الراعي المتعطشة للقمع ، طمعا بنيل نصيب وافر من العظام التي سيتركها السيد الراعي بعد الانتهاء من أكل لحوم إحدى خرافه .

والعصفور الذي يستند على أسلاك الكهرباء القاتمة اللون ، كي يرتاح هنيهة من التحليق في السماء ، ويغرد بالقرب من نوافذ المسترسلين في سبات عميق ، سيعتقد أنهم سيستيقظون فرحين بسماعهم لصوته ، وسيستبشرون بيوم يبعث فيهم التفاؤل ، ولكن المسكين لا يدري أنه من وجهة نظرهم كالغراب الأسود ، الذي سيهز بنعيقه مضاجعهم المستسلمة سلفا لسيناريو حياة رتيبة .

ولذلك فإن العاقل الحكيم هو الذي يضع رأسه بين الرؤوس مرددا : (( الموت مع الجماعة رحمة )) ، وبما أن هذا الموت لا يعني بالضرورة الموت المتعارف عليه في قاموس البشرية ، إلا أنه موت لا بد من حدوثه لإحدى الخلايا الدماغية المتعطشة لاحتواء أية أفكار إيجابية بتغيير الواقع الذي تعض عليه جموع الناس بالنواجذ .

ومن هذه المنطلقات التي تشبثت بسارية العلم الأبيض إذعانا باستسلامها ، تتمحور (( كاريزما )) شخصيات باتت رموزا مجتمعية ومقدسات لا يجوز انتهاكها .

فالثوار والمثقفين لا بد أن يكونوا يساريين في أفكارهم ومعتقداتهم وحتى في عواطفهم ، ومن لايتخذ من (( ارنستو تشي جيفارا )) وسيرته النضالية القدوة والمذهب ، فهو لايحمل بين ضلوعه (( نزق الثوار )) .

أما من أراد أن يكون (( دنجوان )) عصره ، فهو أمام مفترقي طرق لابديل عنهما ، ويحومان في مدار الفكرة ذاتها ، فبالمال والجمال أنت معبود النساء ، حتى لو كان عقلك لا يعرف من هذه الدنيا سوى غرائزه الأساسية .

وهناك شخصية (( رجل الأعمال )) ، التي لا تتطلب منك سوى أن تؤثر بكلامك دوما على كل من تجالسهم ، من خلال أفكارك النيرة حول المشاريع في شتى القطاعات ، ولا بأس إن نلت لقب (( النصاب )) بعد فشل إحدى هذه المشاريع ، لأنك ستتمكن وبكل بساطة من اصطياد أغبياء جدد ، سيستمعون إليك باهتمام وأنت تسرد لهم أفكار المشاريع التي رأيتها في بلاد الغرب .

ولكن تبقى شخصية (( ابن البلد الأصيل )) هي المحببة والقريبة من عامة الشعب ، وأنت في سبيل تحقيقك لملامح هذه الشخصية ، لابد أن تثبت أنك حاذق و (( لهلوب )) عندما تتجول في سوق الخضار المركزي ، أو عندما تذهب إلى المسالخ لاختيار ذبيحتك التي ستطهى على مأدبة طويلة وعريضة في إحدى مناسبات الولائم العائلية ، ولامانع إن كانت لديك خبرة ذائعة الصيت في اقتحام مضارب الباعة المتجولين ، ولهثك وراء وسائط النقل العام ، والشكوى المستمرة من راتبك المهدور دمه على أسفلت المؤسسات الاستهلاكية وخصوصا في مواسم المنخفضات الجوية أو عند حلول شهر رمضان أو عند تأخر الحوالة التي سيرسلها لك أهلك المغتربون ، ولا تنس أحلامك البكر بامتلاك سكن كريم والتي تم وأدها فور ولادتها من رحم أمنياتك ، والأهم من ذلك كله أن تكون دوما قدوة يحتذى بها للمثل القائل : (( سبع صنايع والبخت ضايع )) ، ولكنك لن تتقلد أوسمة الشرف لهذه الشخصية إذا لم تردد في كل المحافل المجتمعية أنك (( ابن البلد وتفتخر )) .

وإذا كنت تريد أن تحظى بلقب (( الشيخ )) ، فيتوجب عليك تحديد مقصدك من هذه الصفة أولا ، فهناك (( الشيخ )) الذي يعتقد أنه يحظى بهذا اللقب بالفطرة ، كونه ينتمي إلى عشيرة ما ، وفي هذه الحالة لا يلزمك سوى أن ترفع لسانك كالسيف في وجه كل من يجهل بطولات وجهاء عشيرتك في حروبهم الأزلية مع العشائر الأخرى ، ولا تنس أن تستخدم إصبعيك (( السبابة والوسطى )) وأنت تتحدث ، استكمالا لشروط (( المشيخه )) .

أما إذا كنت تبحث عن لقب (( الشيخ )) بصبغة دينية ، فالأمر في غاية البساطة ، إذ ما عليك إلا أن تطلق لحيتك ، وترتدي (( دشداشة )) بيضاء ويحبذ أن تكون قصيرة وفضفاضة ، وتجلس في الصف الأول في المسجد ، ولاتخش شيئا من حفظك المتواضع لكتاب الله العزيز ، فعندما يرجوك المصلون كي تؤمهم في صلاة جهرية ، وتتلو عليهم في الركعة الأولى سورة الإخلاص بلكنة تقترب إلى اللهجة العامية ، ثم تتبع تلاوتك بسورة الناس في الركعة الثانية ، وهما في واقع الأمر ما جهدت بحفظه من القرآن الكريم ، سيفرح بك المصلون لاعتقادهم أنك تخفف عليهم بالصلاة ، أسوة برسولنا الأعظم عليه الصلاة والسلام .

ولأنني أسقطت كل هذه الرموز الأسطورية التي ستقودني إلى أن أكون من الشخصيات البارزة في هذا المجتمع ، أجاهر بأنني شخص لا منتمي لفصول هذه الرواية التي لن أتقمص في يوم من الأيام أي من أدوارها .

Followers

Pageviews Last 7 Days