الأم الغافلة

عادة ما ترتبط أسباب انكسار قلب الإنسان بفجيعة ناجمة عن خسارات متتالية في ميدان الحب ، وقد يحدث أحيانا أن يلملم ذلك القلب أشلاء عواطفه المكسورة ، ويستعيد تجميع إطار لوحة قلبه مستعينا بلاصق ذي فعالية مضادة للكسر ، فالكراهية إذا وطأت القلب وطردت الحب ، فإنه سيكون حينها قاسيا عصيا على الخدش .

وهذا ما حدث مع ذلك الصبي الذي ملأت الكراهية الزائفة قلبه لأقرب الناس إليه ، فهي بالفعل كراهية زائفة ، إذ كيف من الممكن أن يكره الولد أمه التي لا يضاهيها في قلبه محبة نساء الأرض أجمعين ؟

ولكل من يعتقد باستحالة حدوث ذلك ، فإن هذا الصبي سيخبركم عن سبب شقائه وتعاسته ، وكيف أن قلبه أصبح أقسى من قلب (( الزير سالم )) عندما كان يشرب دماء أبناء عمومته دون شفقة ولارحمة ، كي يثأر لدم أخيه المهدور بسبب ناقة البسوس .

يقول الصبي : لقد كنت أنا وشقيقي الذي يكبرني ببضع أعوام ملتصقين في كل مكان ، ولانفترق إلا عندما نجتمع بوالدتنا ، والتي كنت دوما أراقب بريق عينيها باهتمام كلما نظرت إلى أخي ، وكيف أن ذياك البريق يسارع بالاختفاء عند تلاقي عيوني بعيونها ، فتسارع إلى استدراك موقفها بابتسامة مغتصبة من شفتيها ، كي تخفي وراءها سيل العواطف الجارف نحو مصب قلب واحد ، ولست أدري إن كان قلبي شديد الملوحة لدرجة أن تأبى محبتها الحقيقية أن تختلط فيه ولو لمرة واحدة ؟

أذكر في أحد الأيام عندما طالبنا المعلمون في المدرسة كي نكتب موضوع تعبير بمناسبة عيد الأم ، وأذكر حينها أننا استلمنا تلك الأوراق المكتوبة بحبر قلوبنا ، مغلفة ببطاقات معايدة جميلة ، كي نهديها لوالدتنا عندما نعود إلى المنزل ، ولقد هرولت سعادتنا عندما قرع جرس الانصراف المدرسي ، متجاوزة مسير أقدامنا ، كنا متلهفين لقراءة ملامح وجه أمي وهي تقرأ ما خطته أيدينا ، وبالفعل فقد كادت حرارة قبلات والدتي تحرق بطاقة أخي من فرط سعادتها وهي تقرأ حروفه ، ولكن تلك الحرارة التي وصلت إلى قمة الغليان العاطفي ، انقلبت إلى كتل كثيفة من الجليد ، وهي تقرأ بعجالة ما كتبته لها ، لتشكرني بعدها بعبارات مبتذلة من قاموس المجاملات اللغوي .

وعلى الرغم من ذلك الشعور الذي بدأ يقلب حياتي إلى جحيم لا يطاق ، كان لا يزال يراودني طيف أمل ، في أن تستدرك والدتي فظاظة فعلها ، مع أنني على يقين تام بعفوية سلوكها ، ولكنني في النهاية كائن بشري مجبول من طينة مشاعر وعواطف لابد لها من مراعاتها ، ولكنها ظلت تغمض عينيها غير آبهة بقلبي الذي داست عليه مرارا بكعب محبتها الأحادية لشقيقي ، وجفائها المتواصل لجميع محاولاتي في التقرب من قلبها .

وبدأت مياه الكراهية بالغليان في قلبي مع مرور الأيام ، وأنا أشاهد فخرها واعتزازها بشقيقي في أي تجمع لنا بين الأقارب والمعارف والأصحاب ، وتجاهلها المطلق لوجودي وكأنني لم أرقد في رحمها لتسعة شهور ، وكم هاجمتني الظنون بأنني لست ولدها ، وبأن الدماء التي تجري في عروقي لم تختلط يوما بدمائها ، وتأكدت كل هواجسي عندما جاهرت بين الجموع أنها تفتخر بندبة بطنها المنقوشة على جسدها ، كوشم مغال في محبتها لشقيقي مذ يوم ولادته ، وأنها ستظل ترفع هامتها به إلى أن تواري التراب .

ولأنني لا أريد أذيتها بكلمة عتاب ، قررت أن أهجر بيتها ، وأن لا أعود إليه قط ، وإنني أعلم أنها لن تكترث لغيابي ، ولن تفتقد لكلماتي التي لطالما جهدت في محاولة استرضائها ولكن دون أدنى جدوى ، لن أقول لها وداعا ، فليس لدي القدرة على مواجهة أغلى الأحباب في لحظة وداع ، سأظل دوما أراقبها من بعيد ، وسيكفيني أن أجدها سعيدة مع الأصدقاء والأحبة الذين يحيطون بها من كل جانب ، وسأكون مطمئنا على الدوام ، وهي بجانب شقيقي الذي آثرته بمحبتها وحنانها ، وفخرها واعتزازها ، فأنا على يقين تام بمقدار محبته وخوفه عليها .

يقولون أن محبة الآخرين لنا ، لا تختلف في مقاديرها ، تماما كما هو حال الرزق والأجل ، فهي محفورة على أوراق حياتنا من قبل أن يخلق أبونا آدم ، ولكن هل هذا يعني أن تفرط الأم في إظهار محبتها لأحد أولادها دون أن تراعي مشاعر إخوته المتعطشين لقطرة حنان من قلبها ؟

Followers

Pageviews Last 7 Days