المقاعد الشاغرة

عندما كان ذلك الشاب الذي أصبح بلغة هذه الأيام كهلا وهو لايزال في الثلاثين ، يبدأ أولى خطوات حياته ، وقد تأبط الكراسة التي يجتهد معظم الناس بكتابة سطورها الرتيبة ، مستعينا بزجاجة سائل حبري أسود ، وبريشة قلم منهكة ومجهدة من كثرة ما تعاقب عليها من أجيال لأصابع بائسة .

وإذ كان في تلك الأثناء لا يلقي بالا لتوبيخ والده وتعنيفه لسلوكه الطائش ، ولايرد عن نفسه أصابع الاتهام بتقصيره المتواصل في بناء مستقبله ، على الرغم من أن أقرانه كانوا لا يكترثون مطلقا ، لمخطوطات البناء التي كان منكبا على الدوام بمحاولة رسمها ، فآباؤهم قد ادخروا لهم من (( الإسمنت الأخضر )) ما يكفي لبناء ناطحة سحاب دون أدنى مجهود يذكر ، في إطار ما يدعى بمشروع المستقبل المشرق والآمن .

وعندما تفوق عليهم جميعا في تحصيله الدراسي ، ليضمن بذلك مقعدا تنافسيا في جامعة حكومية ، و يكون بمقدور والده التكفل بمصاريفها ، لم يرواد أقرانه الغيرة من إنجازه قط ، إذ أن مقاعدهم في الجامعات الخاصة المحلية منها والأجنبية ، كانت رهن الحجز سلفا قبيل تقدمهم لامتحان الثانوية العامة .

ولقد ظلت المقاعد المحجوزة مقدما تنافس فرصه في بناء مستقبله بعد ذلك ، فلم تجدي ساعات دراسته المكثفة ، كي يتفوق على من كان يحصد علامات التميز بسبب مكانة والده المرموقة في المجتمع ، وإذ أن إجهاضه لحلمه الأول في الجلوس على مقعد أستاذ المستقبل ، كان يعلله دوما بأن المقاعد الشاغرة هناك ، هي حق حصري لأبناء العائلات الأكثر حظا .

وعندما تأبط شهادته الجامعية ، وقرر أن يغلق الباب في وجه أمنياته الأكاديمية ، وأقنع ذاته أن لاصوت يعلو على صوت الحياة العملية ، شرع حينها في طرق كل الأبواب بحثا عن وظيفة تكون ثمرة جهده المتتابع لسنوات دراسته المضنية ، ولكن المقاعد الفارغة هناك أيضا ، كانت تأبى جلوس من لايتكىء بظهره على سطوة ونفوذ أقاربه ومعارفه .

وبعد أن يأس من إيجاد وظيفة منسجمة مع شهادته ، قرر أن يعمل في أي مجال يضمن له الحق في مواصلة هذه الحياة ، ومع أنه كان يغض الطرف ويحجب السمع عن أخبار أقرانه الذين تخطاهم في المدرسة وتأخر عنهم كثيرا في مراحل البناء ، إلا أنه لم يعد يتمنى لمستقبله سوى بناء بطابق واحد ، وسقف يتسع لرأسين ليس إلا .

وهذا ما دفعه بعد أن توظف براتب زهيد بالكاد يكفي لنفقات مواصلاته وحاجاته الأساسية ، أن يبحث عن (( ابنة الحلال )) ، كي تشاركه في البناء دون الاكتراث لمخاطر الارتباط برجل ذي حظ عاثر ، طالما ستجمعهم المودة والألفة والعشرة الطيبة .

ولم يجد نفسه مجهدا في البحث عن مقاعد شاغرة للارتباط ، ولكن الذي حدث وبكل أسف ، أن المقاعد هناك كانت تدعي دوما أنها محجوزة لأشخاص لم يحضروا بعد .

وتمضي به الأيام والسنين ، وجميع مقاعد الحياة ترفض جلوسه عليها ، ولكنه ما عاد مكترثا لذلك قط ، بل كان خائفا أن لا يجد مقعدا شاغرا يرتاح فيه عند الموت ، إذ أنه وفي آخر زيارة له للمقابر ، لاحظ أن أراضي المدافن بدأ يستولي عليها أصحاب الحظوة في مقاعد الحياة ، من خلال تقسيم أراضيها لممتلكات احتكارية لموتاهم ، فهل سيأتي يوم ويستأثرون بمقاعد القبور أيضا فلا يتركون أدنى فرصة لغيرهم في الجلوس حتى على ذلك المقعد ؟

Followers

Pageviews Last 7 Days