اللد ... مدينة أجدادي

قبل عدة أيام توفي أكبر معمر في عائلتنا عن عمر يناهز ( 105 سنين ) تقريبا ، وقد توجهت أنا ووالدي وشقيقي لتقديم واجب العزاء لذويه حيث كان العزاء مقاما في جمعية اللد الخيرية .

وبمجرد دخولنا إلى قاعة الجمعية الرئيسة وقع نظري على صورة كبيرة كانت قد توسطت جدران القاعة وهي تشبه الصورة المرفقة في متن إدراج اليوم وهي صورة مسجد دهمش الكبير أو كما يلقبونه ( مسجد المذبحة ) وقبل أن أحدثكم عن قصة هذا المسجد سأحدثكم قليلا عن المدينة المتواجد فيها ذلك المسجد وهي مدينة اللد الفلسطينية .

اللد تعتبر من أقدم مدن فلسطين التاريخية وتقع على مسافة ( 16 كم ) جنوب شرق مدينة يافا و ( 5 كم ) شمال شرق مدينة الرملة ، وقد كانت اللد في عهد الفتوحات الاسلامية عاصمة جند فلسطين وفي عهد الدولة الأموية كانت عاصمة مؤقتة للخليفة سليمان بن عبد الملك وكذلك فقد ضمها السلطان الظاهر بيبرس لدولة المماليك بعد انتصاره على الصليبيين وبعد ذلك أصبحت اللد تحت الحكم العثماني لغاية الحرب العالمية الأولى حيث تم فرض الانتداب البريطاني عليها ، ولاحظوا معي من خلال تتبع كل تلك الفترات الزمنية أن اليهود لم يتواجدوا في هذه المدينة قط وهذه الحقيقة ليست حكرا على مدينة اللد وحدها بل هي الحقيقة التي لا تقبل الشك عند الحديث عن أي شبر من تراب فلسطين الطاهر .

في فترة الانتداب البريطاني على مدينة اللد كان والدي لايزال في فترة صباه ومن القصص الطريفة التي كان يذكرها لي دائما عن تلك الفترة أن شباب اللد كانوا يدفعون غرامة لحكومة الانتداب البريطاني في حال قيام أحدهم بلطم جندي بريطاني على وجهه ويطلقون سراحه بعدها ، وهكذا كان شباب اللد دائما يتسابقون ويتهافتون على ضرب الجنود البريطانيين كنوع من تفريغ شحنات الغضب التي كانت تلهب نفوسهم بسبب تواجد هؤلاء المحتلين على أرضهم بحجة الانتداب والوصاية .

ولكن هذا الوضع لم يدم طويلا فلقد كان هنالك من يتربص بهؤلاء الشباب وينتظر لحظة الهجوم والإعتداء عليهم وعلى آبائهم وأمهاتهم وشيوخهم وأطفالهم وهذا ما حدث فعلا في عام الحزن الأكبر ( عام 1948 ) عندما دخل اليهود الصهاينة إلى مدينة اللد بأسلحتهم وذخائرهم ومعداتهم العسكرية ليهاجموا المدنيين العزل ويهددون ويتوعدون بذبح وقتل أي شخص يرفض الرحيل عن المدينة ، وكم تسائلت وأبي يروي لي هذا المشهد الذي عاش كل تفاصيله عن طبيعة مشاعر أي شعب من شعوب البشرية يتعرض لمثل هذا الموقف الوحشي البشع فماذا تراه سيصنع ؟

حاول بعض سكان المدينة الحزينة أن يقاوم ويرفض الخروج والطرد القسري من مدينته ولكن وبكل أسف كانوا يقاومون وليس معهم سوى أيدي عارية من كل صنوف السلاح ، فكان المصير واضحا واستشهد كل من رفض الخروج ، اعتقد البعض أن اللجوء إلى المساجد والكنائس قد يوقف شلالات الدماء البشرية التي بدأت تتساقط في كل مكان ولكنهم أخطأوا في تقدير شراهة عدوهم في مشاهدة منظر الدماء ، فاقتحم الصهاينة كل من لاذ إلى مسجد دهمش الكبير وذبحوهم بدم بارد وهذه وبكل أسف حكاية الصورة التي مافارقتها عيوني أثناء جلوسي في العزاء .

يقول لي والدي أنه في ذلك اليوم المشؤوم لم يملك من أمره شيئا فخرج هو وعائلته وعائلات كثيرة من مدينة اللد حفاة الأقدام يسيرون إلى مصير مجهول ممزوجين بلوعة الألم والحسرة على فراق مدينتهم التي أصبحت في هذه الأيام جزء من دولة اسرائيل .

استمر أبي في المسير حتى عبر ضفة نهر الأردن الشرقية واستقر في المدينة التي ولدت وترعرعت فيها وماعرفت غيرها مدينة ضمت كل أيامي وسنين حياتي ( عمان ) ، أما اللد فلا أعرف عنها سوى الصور واللوحات التي أشاهدها وهامش ذكريات يحدثني بها والدي بين الفينة والأخرى .

انتهت حكاية الصورة التي روى فيها أجدادي بدمائهم الطاهرة كل بقعة في مسجد دهمش الكبير ولكن لم تنتهي الحكاية بعد مع هؤلاء الصهاينة السفاحين .

لن أنساكي أبدا يا فلسطين فعلى الرغم من أنني من أبنائك الذين لم تضميهم يوما في ربوع أحضانك الدافئة ولكنك ستظلين أمي الحبيبة التي سأحلم في كل ليلة أن أعود إلى صدرها الحنون ، مهما طال الزمن لابد أن ألقاك يا أمي يا حبيبتي.... يا أغلى من روحي... يا فلسطين .

Followers

Pageviews Last 7 Days