مدراس البنات والخطر القادم

عندما كنت في سن المراهقة وتحديدا في الصف العاشر وبمجرد بدء الحصة الأخيرة من الدوام المدرسي وحضور أستاذ التاريخ ليروي لنا قصة حملة نابليون على مصر ليثقل بذلك كاهل تفكيرنا البريء بأننا أمة قد اعتادت على الترحيب بمغتصبيها ، فعروبتنا تملي علينا إكرام الضيف وتذكرنا دائما بحقوقه علينا وواجباتنا تجاه راحته ورضاه ولذلك فإن كل من يرفض استقبال الضيوف ممن هم على شاكلة نابليون فهو خائن للعروبة وأرهابي ومتطرف .

وفي وسط نوبات تلك الأفكار التي فشلنا في إيجاد الدواء المناسب لها ، أبدأ بالنظر إلى ساعتي فأجدها وكأنها لا تتحرك وعقاربها لاتفارق خانة الثلاثين بعد الساعة الثانية عشرة ظهرا ، ولكسر جمود ذلك الوقت الذي يمشي كرجل كهل يحاول عبور شارع عريض ، أنظر من خلال نافذة الصف المثقوبة منذ زمن طويل والتي لم يكتشف بعد أن أضرارها على صحة الطلاب أخطر من الآثار التي يدعون وجودها في ثقب طبقة الأوزون ، ومع هذا لا أكترث بعواصف الهواء القادمة من تلك النافذة والتي تجعلني منكمشا في مقعدي كجنين في رحم أمه وأتابع رحلتي في السفر بعيدا عن حملات نابليون إلى أراضي مدرسة الفتاة التي عشقتها من أول نظرة وهي ترتدي ذلك الزي الأخضر الفاقع والذي كان سببا في عشقي لذلك اللون على الرغم من أني لا أحب إلا اللون الأسود .

تذكرت أنني أحمل في جيبي صورة للمغنية اللبنانية التي تفردت الساحة في ذلك الوقت ( نوال الزغبي ) فقد كانت فتاتي تشبهها كثيرا وهذا كان بشهادة جميع الشبان الذين كانت هوايتهم الذهاب إلى مدرسة سكينة بنت الحسين للبنات الحكومية في جبل الحسين ولم نكن نجرؤ على الذهاب لمدرسة راهبات الناصرة الخاصة فهنالك حراس على أبوابها وبذات الوقت طالباتها معظم أولياء أمورهن من المسؤولين وكبار الموظفين الذين قد يرسلونا وراء الشمس إذا حاولنا مجرد النظر إلى بناتهم .

وما أن يقرع جرس حصة التاريخ حتى نستعد أنا وأصدقائي للذهاب إلى مدرسة سكينة ليشاهد كل منا فتاته التي يعشقها ويمني النفس في الحديث معها ولكننا لم نكن نجرؤ على الوقوف أمام باب المدرسة بشكل مباشر وذلك لأن دوريات الأمن العام كانت تجوب المنطقة بين حين وآخر ويمسكون بكل الشباب المراهقين الموجودين عند محيط بوابة المدرسة ، ولذلك كنا نتخذ زاوية لنا بجانب مبنى البنك الاسلامي وتحرقنا الاشواق في انتظار فتياتنا اللواتي سيسلكن ذلك الطريق وهن متجهات إلى منازلهن .

وما أن تأتي اللحظة الموعودة حتى نبدأ بترتيب أنفسنا وملابسنا لنكون في أبهى صورة أمامهن وعند حضورهن تبدأ حرب ضروس في تراشق أسهم العشق والهيام من قبلنا بينما تبدأ حملة المقاومة العنيفة باستخدام دروع حديدية أقسى من دروع جيوش نابليون في رفض هؤلاء الفتيات لنا وعدم الاكتراث أو الاهتمام لأمرنا .

ومع هذا لا نفقد الأمل ونعيد الكرة في كل يوم دون استسلام والفتيات لايزلن يتمنعن حتى من الابتسام ، وفي يوم من الايام جاء أحد أصدقائنا إلى المدرسة سعيدا يمشي واثق الخطوة ملكا ، فاستغربنا لأمره وسألناه عن السبب ، فأخبرنا أنه تمكن من الحديث مع فتاته التي هي في الاساس جارته وقد أخبرته أنها ستقف كل يوم معه لمدة عشرة دقائق في نهاية الدوام المدرسي في أحد الشوارع الفرعية ، نحن لم نصدقه طبعا واتهمناه بالكذب ، فرد التهمة عن نفسه وأجاب أنه سيثبت لنا عن صدق كلامه اليوم ، وفعلا حصل ماقاله تماما وتحدث مع الفتاة ونحن بدأنا نتحسر على حظنا العاثر .

قررت أن أطلب مساعدة صديقي ليسأل فتاته عن اسم الفتاة التي أعشقها وفعلا لبى صديقي النداء وعرفت اسمها أخيرا ، ولكني بدأت أفكر في الخطوة التالية عن الكيفية التي سأعبر لها عن محبتي ، وورد في خاطري فكرة الذهاب إلى المدرسة ليلا ورسم قلب يزينه اسمي واسمها رافضا بذلك فكرة رسم نصف قلب فقط كما قالت نوال الزغبي ورافضا فكرة رسمه على ورقة كما فعلت والاستعاضة عن ذلك بكراسة حائط المدرسة ولكني تراجعت عن هذه الفكرة سريعا ولمت نفسي كثيرا فكيف أفضح تلك الفتاة أمام زميلاتها ؟

تذكرت وأنا أكتب هذه الفقرة ماقرأته في أحد الصحف اليوم عن العبارات المسيئة والمكتوبة على جدران مدارس وكالة الغوث في منطقة الوحدات والتي تضطر الفتيات هناك لمشاهدتها في كل يوم في الصباح والمساء ، فتسائلت هل تغير الزمن لهذا الحد ؟ أنا تورعت عن كتابة كلمة محبة فكيف بمن لم يتورع عن كتابة ألفاظ نابية أمام الفتيات ؟

كم كانت تلك المقارنة سخيفة بين زمانين لايفصل بينهما أكثر من خمسة عشر عاما ، فقد وصل الأمر في تلك المدارس إلى خوف الفتيات من الذهاب إلى دورة المياه لأن الشبان في تلك المنطقة يقتحمون المدرسة في أثناء الدوام ، فإلى أي زمن وصلنا ونحن كنا نخاف الاقتراب من محيط بوابة المدرسة في زماننا ؟

أنا في ذلك الزمان قررت العزوف عن الذهاب لمشاهدة تلك الفتاة التي عشقتها بعد أن حاولت الحديث معها وقالت لي : ( هل ترضى لأختك أن يلاحقها شاب بهذه الطريقة ؟ ) ، فكيف بهؤلاء الشبان الذين أصبحوا يمارسون كل تلك الاعتداءات على مدارس البنات ويغفلون أن أخواتهم لو تعرضوا إلى مثل هذه المواقف فماذا كانوا سيفعلون ؟

الحالة النفسية لدى العديد من الفتيات قد تأثرت بسبب هذه الأحداث وأصبحن لايرغبن بالذهاب إلى المدرسة خوفا من الاعتداءات والمضايقات والتحرشات التي قد يتعرضن لها ، ولذلك أعتقد أن من سلم أولويات الأمن في البيئة المدرسية هو حماية الفتيات من كل من تسول له نفسه بمضايقتهن وهن في طريقهن إلى مدارسهن وهذا من وجهة نظري أهم بكثير من موضوع موضة العنف المدرسي الذي طغى على ساحة إعلامنا في هذه الأيام .

لابد من زيادة عدد حراس البوابات لمدارس البنات الحكومية وفي مختلف المناطق وبذات الوقت لا بد من إعادة تشييد الأسوار ورفعها بحيث لايتمكن أي عابث من محاولة الاقتحام لها وإذا كان خبر الصحيفة يتحدث عن مدارس وكالة الغوث فهذا لا يعني أبدا أن المدارس الحكومية في معزل عن ذلك الخطر وهذا ماحدث بالفعل في محافظة العقبة قبل فترة ولا أعتقد أن تلك التكاليف ستزيد من أعباء الموازنة المثقلة بالديون أساسا ، فوزارة التربية والتعليم ووزارة الصحة هما وزارتان يتوجب استثنائهما من كل الحسابات ومن كل خطط ضبط النفقات فهما أساس وعماد بنيان هذا المجتمع وكم كنت أتمنى أن لا أرى ولا أسمع عن حملات التسول التي حدثت هذا الاسبوع لشراء مدافىء لمدارس الحكومة ، فأين خطط التطوير والتنمية التي ينادى إليها في قطاع التعليم وهي لا توفر أساسا الجو والبيئة الملائمة والمريحة للطلاب والطالبات والمعلمين والمعلمات وهنا حدث ولاحرج عن الأوضاع المادية السيئة للمعلمين من تدني رواتبهم وأجورهم واضطرارهم للعمل في أكثر من وظيفة لتأمين متطلبات العيش ؟

ماهو السبب الذي دفع بالطالب دويكات لدخول غرفة المعلمين للحصول على شربة ماء ودفع عينه ثمنا لها إلا بسبب مشكلة شح مياه الشرب في المدارس ، أعتقد أن المتطلبات الاساسية التي لابد من توفرها في البيئة المدرسية يجب أن يكون لها الاولوية الاولى قبل الانطلاق إلى مشاريع أخرى تنادي إليها وزارة التربية والتعليم وتطلق الوعود بانجازها .

متى سيقتنع الجميع أن أساس النهضة والتقدم يبدأ من تلك الوزارة وليس من سواها ؟

Followers

Pageviews Last 7 Days