يا حبيبي ... يا رسول لله

غطت في سبات عميق ، وإذ بها تسمع صوتا يناديها من بعيد (( لقد حملت يا آمنة بخير الأنام )) ، وعندما أكمل شهر ربيع الأول اثنتي عشرة ليله ، لم تشعر بثقل الحمل وآلام الولادة كغيرها من نساء الأرض ، فلقد بزغ نور الحق في يوم الإثنين من عام الفيل ، ليولد سيد الخلائق والبشر ، رافعا رأسه إلى السماء ، التي عجت بالشهب الطاردة لمسترقي السمع من وراء بوابات عرش الرحمان ، وحفت الملائكة البيت العتيق بأجنحتها ، ونكست أصنام الشرك رؤوسها ، وخمدت نيران فارس ، وتساقطت تيجان ملوك الدنيا وتلاشت ، فالعزة لن تكون إلا لله ورسوله والمؤمنين .

ولد صلى الله عليه وسلم يتيم الأب ، وما لبث أن أصبح يتيم الأم بعدها ببضع سنوات ، ولكن جده (( عبد المطلب )) سيد قريش وزعيم مكه ، وعمه (( أبو طالب )) من بعده ، كانا له الأب والأم في صباه وشبابه ، ليكبر ويترعرع ذلك الفتى القرشي الهاشمي العربي في بيوت الأصالة والشهامة ، ويكون استثنائيا في مكارم أخلاقه التي جعلت قومه يطلقون عليه لقب (( الصادق الأمين )) .

وما أن أتم الخامسة والعشرين من عمره ، حتى دون لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أروع القصص وأجملها في العلاقات الزوجية ، مع سيدة كانت تتقن كل الأدوار التي يتشوق لها الرجل في امرأته ، فلقد كانت حبيبته وأمه وصديقته ، وما أصعب أن تجد امرأة تجتمع فيها كل تلك الأحوال ، ولكن ذلك ليس غريبا على من تأصلت فيها خصال حميدة يعجز القلم عن سردها ، فبعفتها وعقلها وحزمها نالت لقب (( الطاهرة )) في الجاهلية ، وأضحت بعد ذلك سيدة الإسلام الأولى (( السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها )) .

وعندما أصبح عليه الصلاة والسلام في الأربعين من عمره ، تحين لحظة اللقاء الموعود مع سيد الملائكة (( جبريل عليه السلام )) ، لتنطلق بعدها رحلة الدعوة في إخراج الناس من الظلمات إلى النور ، وقد ابتدأت بفعل أمر سيظل الإذعان له طريق النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة (( اقرأ )) .

لم يكن الطريق معبدا أمامه عليه الصلاة والسلام في دعوته إلى دين الإسلام ، ولقد لاقى الأذية من القريب قبل البعيد ، ومع هذا ظل صابرا محتسبا ، متمسكا برسالته ، لاتثني عزائمه كل وسائل الترغيب والترهيب ، ليدون للبشرية دروسا لن تتكرر في المثابرة والإصرار على إكمال طريقه للنهاية ، فيقول لعمه (( أبو طالب )) عبارة خالدة إلى قيام الساعة : (( والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهر أو أهلك دونه )) .

ويأتي عام الحزن ، ويفقد صلى الله عليه وسلم أعز الناس إلى قلبه (( زوجته وعمه )) ، ويذهب إلى الطائف ، ويتعرض للأذية والسخرية من صغار أهلها وسفهائهم ، ولكن قلبه الكبير المتسامح ، وإخلاصه ووفاءه لرسالته ، ومحبته الخالصة لأمته ، جعلته يرفض دعوة (( ملك الجبال )) الذي كان ينتظر إشارة من النبي عليه الصلاة والسلام ، ليطبق الجبال على الطائف وأهلها ، فكان جواب الرسول العظيم له بالرفض معللا : (( بل أرجو أن يخرج الله تعالى من أصلابهم من يعبده ولايشرك به شيئا )) .

لتكون هدية الرحمان لحبيبه بعدها ، بلقاء استثنائي عند سدرة المنتهى ، من غير حجاب ولاحاجز ، وبمسافة كانت قاب قوسين أو أدنى ، ما وصلها ولن يصلها أحد غير الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم ، بعد رحلة بدأت على ظهر الحصان الطائر (( البراق )) من مكة المكرمة إلى بيت المقدس الشريف ، ومن ثم إلى السماوات العلى ، ليسطر لنا عليه الصلاة والسلام في تلك الرحلة أحوال السماء وأهلها ، ويصف لنا طريق الجنة والنار ، ويسرد لنا لقاءه مع هادم اللذات ومفرق الجماعات (( ملك الموت )) ، ليذكرنا أننا مهما عشنا في هذه الدنيا ، فلا بد لورقة أعمارنا أن تصفر وتسقط ، معلنة لحظة الأجل التي لامفر منها ، وهكذا كانت رحلة الإسراء والمعراج العظيمة .

وتأتي بيعة أهل يثرب ، ويهاجر النبي عليه الصلاة والسلام برفقة صديقه (( الصديق )) رضي الله عنه ، تاركا وراءه لوعة الحنين والأشواق إلى مسقط رأسه وذكريات شبابه وصباه ، فلا يلتفت إلى الخلف قط ، بل تتجه أنظاره إلى مدينة ستعج بالنور لقدومه ، ويعلو فيها صوت التوحيد ، وتكون منبرا ينطلق منه الإسلام بعدها إلى كل بقاع الدنيا ، فيهلل أهل يثرب بقدوم البدر الذي سينير لهم عتمة سماء حياتهم .

ويآخي النبي عليه الصلاة والسلام بين المهاجرين والأنصار ، ويعلمهم أن هذا الدين يجمعهم ، ويألف بين قلوبهم ، ليكونوا كالبنيان المرصوص ، وأنهم إذا تنازعوا على عرض الدنيا ومتاعها ، حتما سيفشلون وتذهب ريحهم ، ولذلك كان يعلمهم دوما أن مثلهم كمثل الجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى .

وبهذه العقيدة الراسخة في القلوب قبل الجوارح ، بدأت الدولة الإسلامية بإرساء قواعدها ، وبدأت أعداد المسلمين بالتزايد ، وانطلقت جيوش الإسلام تحمل على كتفيها رسالة التوحيد ، وتحقق وعد الله عز وجل لرسوله الكريم ، ودخل مكة المكرمة فاتحا ، وحطم بيديه الشريفتين كل مظاهر الكفر والشرك وهو يردد قائلا : (( جاء الحق وزهق الباطل ... إن الباطل كان زهوقا )) ، ويحج بيت الله الحرام بعدها ، ويلقي خطبة الوداع الخالدة مبتدئا بعبارة أخشى أن يكون الكثير من المسلمين في هذه الأيام قد غفلوا عنها : (( إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم ، كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا )) .

ويعود صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة بعدها ، ويذهب لزيارة شهداء غزوة (( أحد )) ويخاطبهم قائلا : (( السلام عليكم يا شهداء أحد ... أنتم السابقون ونحن انشالله بكم لاحقون )) ، ويشتد الوجع على الرسول الكريم بعد ذلك ، وقد كان يبيت عند السيدة ميمونة رضي الله عنها ، وهنا يعلمنا عليه الصلاة والسلام درسا رائعا في احترامه لزوجاته ، إذ يدعوهم جميعا في ذلك اليوم ، ليستأذنهم في المبيت عند السيدة عائشة رضي الله عنها ، ويشتد الألم بالرسول عليه الصلاة والسلام أكثر ، ويعجز عن النهوض ليقبل ابنته فاطمة الزهراء رضي الله عنها من بين عينيها كما هي عادته ، وهنا درس آخر من الرسول الأب عليه أفضل الصلاة والسلام ، لينام بعدها على صدر زوجته عائشة وهو يردد قائلا : (( بل الرفيق الأعلى ... بل الرفيق الأعلى )) ، فتسقط يده الشريفة ويثقل رأسه على صدرها ، فتدرك أنه مات ، فتخرج من حجرتها لاتدري ماذا تفعل ، وتتوجه إلى المسجد وهي تصرخ منتحبة : (( مات رسول الله ... مات رسول الله )) ، فانفجرت المدينة المنورة بالبكاء ، إلا رجل واحد لم يظهر حزنه للناس مع أنه كان الأقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، إنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، ليتوجه إلى حجرة النبي الكريم ، يحضنه ويقبله ، ثم يخرج على الناس قائلا : (( من كان يعبد محمدا ، فمحمد قد مات ، ومن كان يعبد الله ، فإن الله حي لايموت )) .

وهكذا صعدت روحه الشريفة إلى بارئها في يوم الإثنين الموافق الثالث عشرة من شهر ربيع الأول عن عمر يناهز الثالثة والستين ، بعد أن علمنا بسيرته العطرة دروسا لن تتكرر أبدا في تاريخ البشرية ، ولذلك فإن ذكرى المولد النبوي الشريف التي تصادف في هذا اليوم هي وبكل تأكيد ذكرى لبزوغ فجر الإسلام ، ولكنها في الوقت ذاته ، مدعاة للبحث والتعلم والتأمل والتفكر في ذلك المنهج العظيم الذي دونه لنا عليه الصلاة والسلام بسيرة حياته التي ليس لها من مثيل .

اللهم صل وسلم وبارك على الحبيب المصطفى وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .

Followers

Pageviews Last 7 Days