ماذا أفعل بلساني ؟

على ما يبدو أن ثورة باتت وشيكة الإندلاع على عاداتي الرافضة للتنحي عن سدة التحكم بمجريات حياتي ، وهذا ما تأكدت منه وأنا أغادر المسجد بعد صلاة يوم الجمعة ، إذ تمزق معطف الخشوع الذي كنت سعيدا بارتدائه ، بمجرد انطلاقي بالسيارة أمتارا قليلة ، عندما داهمتني سيارة مسرعة قادمة من طريق ممنوع ، وبرضا من الله و الوالدين ، نجوت من كارثة اصطدام محتومة الحدوث ، إلا أن لساني الذي كان يحاول جاهدا تعويض ميزان حسناته بكلمات الاستغفار والتسبيح والتكبير والتحميد ، والتي كان للتو يرددها في المسجد ، أضاعها بأقل من عشرين ثانية ، بعد أن استنفر كعادته مطلقا أكثر من خمسين شتيمة نابية .

أعود إلى المنزل ، وأحاول استعادة سكينتي مجددا قبل أن أتورط بمشاجرة قد تنشب مع زوجتي لأسباب تافهه ، وبالفعل أدخل وقد ارتسمت على ملامحي المضطربة ابتسامة مصطنعه ، أقبل الأولاد بشفتين باردتين ، وأنادي زوجتي بصوت رزين أجتهد بضبط أوتاره ، لترد على ندائي بصراخ تهتز جدران المنزل من قوته ، وعندها لا أتمالك السيطرة على لساني العزيز ، فأهرب إلى المطبخ وأغلق الباب ، إيذانا ببدء انطلاق حفلة غنائية من الشتائم ، والتي تفوق في مدتها ، سهرة الطرب الشهرية لسيدة الغناء العربي (( أم كلثوم )) في زمن الفن الجميل .

نذهب عند والدتي لتناول وجبة الغداء كما هي العادة في كل يوم جمعه ، وليس هنالك من ضرورة البتة كي أحدثكم عن ماهية الوجبة التي تكون في انتظارنا ، فهي وبكل تأكيد ، الوجبة الأزلية الخالدة (( المقلوبه )) ، نأخذ أماكننا على الطاولة المستديرة ، أتناول أول ملعقة من الرز الخالي من القرنبيط أو الباذنجان لأسباب تتعلق بمحبتي المعاكسة لهما ، وأتبعها بقطعة من اللحم التي تقفز برشاقة إلى شرخ طاحونتي المعطوبة منذ شهر رمضان المنصرم ، فأقفز من مكاني لشدة الألم ، ولكن ذلك لم يثني من عزائم لساني على شتائمه .

أتأهب لاصطحاب زوجتي وأولادي إلى نزهة يوم الجمعة ، والتي أصبح مقصدها لا يتغير في فصل الشتاء لأسباب اقتصادية بحته ، ولهذا فإن (( المول )) الذي يبعد عن منزلنا لمسافة لا تتجاوز العشرة كيلومترات ، يكون لنا المأوى والمستقر ، وما أن بدأت استرجع هدوئي واستجاب لساني السليط لرجائي ، كي يطمس شتائمه بمداعبات وملاطفات رقيقة للأولاد ، حتى تلاشى كل ذلك بمجرد وصولنا إلى الشارع العام ، فقد كان شرطي السير بانتظار كل من لم يطوق صدره بحزام الأمان ، فيحاول لساني وبكل ما أوتي من جلد وصبر ، التحدث مع الشرطي بأسلوب لطيف ، لعل وعسى أن يخلي سبيلي دون تحرير مخالفة سير ، ولكن هيهات هيهات ، فأذن من طين وأذن من عجين ، لأستلم المخالفة وأتابع مسيري إلى (( المول )) وقد فرض لساني بشتائمه الصمت المطلق على أفراد عائلتي .

ندخل (( المول )) ونتوجه إلى صالة الألعاب التي امتلأت عن بكرة أبيها بسبب تخفيضات الأسعار المذهلة المعلن عنها في الصحف ، أزاحم الصفوف عند كل لعبة يصر الأولاد على اللعب فيها ، ويجاهد لساني رغباته المعتادة للشتائم ، وخصوصا عندما يتصبب العرق من كافة أنحاء جسدي بعد أن أكون محاطا مع الأولاد من الأمام والخلف بجثث آباء ضخمة ، إذ نصبح عاجزين عن الحراك وتتوسل عيوننا قفص اللعبة كي يفتح قبل أن يقضى علينا بسبب حالة اختناق ، وقد وصلنا في ذلك اليوم إلى لعبة (( السفينة )) ونحن على شفا حفرة من الإغماء ، فتهم ابنتي للجلوس في المقعد الأمامي ويلحق بها شقيقها كي يجلس بجانبها ، ولكن السيد القبطان ، عفوا السيد المشرف على اللعبة ، يدفع بولدي كي يجلس في الخلف ، وعندها شرعت بمناداته بصوت مرتفع بسبب الضجيج الذي يعج به المكان ، فالتفت نحوي وعيونه تقدح شررا ، وأجابني بنبرة قاسية بحجة أنني لم أكن مهذبا على حد مزاعمه ، معللا ذلك بطريقتي الفظة بالنداء ، وهنا لم يتمكن لساني من التحمل أكثر ، وأمطر صالة الألعاب بشتائم تواصل هطولها دون توقف .

نعود إلى المنزل في المساء ، وأتسمر أمام التلفاز لمتابعة أخبار الدنيا وتحديدا بشقيها المحلي والعربي ، ومن صخب الأحداث التي لا تكون مفرحة قط ، أتوسل لساني الحبيب كي يحتسب ويستغفر ، ويبتعد عن التفوه بأية شتيمة من شتائمه المعتادة ، فبالإضافة إلى ما يتسبب به لساني من جراء ذلك بعجز مستمر في ميزان الحسنات والسيئات ، فإن ولدي الذي لم يتجاوز العامين ونصف العام بات يكرر كل كلمة تتردد لمسامعه ، وكالمعتاد فقدت زمام السيطرة على لساني أمام بعض الأخبار ، لينطلق حينها صوت طفولي يحبو بالنطق الصحيح للشتيمة الأخيرة التي أطلقها لساني ، وحدث ما كنت أخشاه ، واستمر ولدي بتكرارها طوال الليل والنهار ولغاية لحظة كتابة هذا الإدراج ، فماذا أفعل بلساني ؟

Followers

Pageviews Last 7 Days