السبب والمسبب

من يوم الأحد وحتى يوم الخميس ، كل أربعة أسابيع ، وعلى مدار عشرين شهرا متتاليا ، أخرج من عملي ، وأركب سيارتي متجها إلى منزلي فورا ، كطالب نجيب لايتأخر عن موعد حصصه المدرسية أبدا ، وفي طريق عودتي التي لا تتجاوز مدتها الربع ساعة ، تضيق بي الأرض بما رحبت ، من مطاردة النظرات الفضولية لي ، ولكن لماذا تطاردني ؟ ليس بسبب جمالي الفتان طبعا ، وليس بسبب أنني أقود سيارة فارهة طبعا ، وليس بسبب هيبة مظهري وهندامي طبعا ، وليس بسبب أن امرأة حسناء تجلس بجواري طبعا ، وليس ... وليس ... وليس ... كفاك (( رغيا كالصابون )) ، لماذا ينظرون إليك إذا ؟

السبب هو أنني أعاني ومنذ صغري من عادة كنت أعتقد أنها تتسبب في مرض نفسي خطير ، وحتما تودي بمن يفرط في ممارستها إلى عالم الجنون ، ألا وهي عادة الحديث مع النفس ، ولكن بعد قراءتي مؤخرا ، لعدة مقالات طبية متخصصة في علم النفس على الشبكة العنكبوتية ، حول هذا الموضوع ، تبين أن مخاوفي لم تكن في مكانها ، إذ أثبتت دراساتهم أن أسلوب الحديث مع النفس ، هو علاج فعال للحد من وتيرة الضغوطات النفسية ، ولذلك سأشكر والدي الذي أورثني هذه العادة ، التي ما ينفك عن ممارستها كلما اختلى بنفسه فجرا في دورة المياه ، ولابد أن ابنتي (( ياسمين )) ستشكرني أيضا في المستقبل ، بعد أن بدأت ألاحظ ظهور الأعراض الأولية لهذه العادة عندها كلما كانت في خلوة مع ألعابها ، ومما لاشك فيه أنني لن أتعرض بعد اليوم للنقد اللاذع من زوجتي ، كلما استيقظت مذعورة من نومها صباحا على صوتي ، في أثناء النقاشات المحتدمة مع نفسي ، وأنا أصفف شعري أمام المرآة .

لن أكترث بعد اليوم لروايات سائقي (( التاكسي والسرفيس )) وهم يشرحون لركابهم حالتي ، ويعزونها إلى الأوضاع المعيشية الصعبة ، فلقد حدث في أحد الأيام أنني قررت الذهاب في (( السرفيس )) المتجه من جبل الحسين إلى وسط البلد ، ولقرائي الذين لا يعيشون في الأردن ، (( فالسرفيس )) هو سيارة أجرة لها خط مسير ثابت ، وحمولتها أربعة أشخاص ، ولقد كنت في ذلك اليوم قد صادفت السائق الذي ركبت معه على إشارة ضوئية أثناء عودتي إلى المنزل ، ولاحظت قبيل سطوع الضوء الأخضر للإشارة ، أن ذلك السائق قد أطال التحديق بي ، إذ أن لفتة فجائية مني لليمين ، كانت سببا كافيا له لإشاحة وجهه مسرعا ، أعتقد أنه أصيب بالهلع والخوف ، فالمجانين لايمكن التنبؤ بمخاطر سلوكياتهم أبدا ، لاشك أن ذلك ما كان يدور في خلده حينها .

وتشاء المصادفات وبعد ثلاث ساعات ، أن أكون أحد رفاق رحلته الذين سيروي لهم حكاية ذلك الشاب ، وبما أنني كنت أجلس خلفه ، واستبدلت ثياب عملي الرسمية بثياب (( casual )) ، فلم يلاحظ أن بطل روايته سيكون حاضرا بشحمه ولحمه على المقعد الخلفي .

وقبل أن أحدثكم عن روايتي بلسانه ، فقد نسيت أن أصفه لكم ، فهو على مايبدو بالعقد السادس من عمره ، ويرتدي (( كوفية وعقال )) ، لون بشرته سمراء ، وكثافة شاربيه تكاد تطمر حفرتي أنفه ، وشعر لحيته كرؤوس المخرز ، وملامح وجهه القاسية تذكرني تماما بمدير مدرستي الإعدادية عندما كان يرتدي (( الكوفية )) في الشتاء ، ولست أدري لماذا خيل إلي أنه ضخم جدا ، على الرغم من أن مقعده يكاد يكون ملتصقا بمقود السيارة ، هل السبب أن ضخامته تتركز في نصفه الأعلى فقط ، ولاتنطبق على نصفه الأسفل ؟ ربما .

كان يعبث بإبرة المذياع بحثا عن نشرة الأخبار ، وما أن تحقق مراده ، حتى بدأنا جميعا بسماع النشرة على الدرجة القصوى لإمكانيات المذياع الصوتية ، لدرجة أنني شعرت لوهلة أن السماعات من خلفي تكاد تنفجر وبفاصل زمني قصير جدا عن انفجار يتبعها في طبلة أذني ، وخصوصا أن رداءة الارسال كانت سببا في مرافقة أهازيج التشويش ، ككورال لصوت المذيعة .

تبدأ النشرة بالحديث عن أخبار التشكيلة الوزارية المتوقعة ، والعمل الدؤوب لرئيس الحكومة الجديدة وما يبذله من عناية حثيثة في اختيار وزراء أكفاء قادرين على تحقيق الأمل المنشود بالإصلاح ، وفي هذه الأثناء يتدخل السائق بخبرته الطويلة في المجال السياسي : (( هاظي الحكومة يا إخوان رح تقضي على الفساد وبكره بتشوفو )) ، يتدخل الراكب الذي يجلس إلى جواره وعلى طريقة أبو محجوب : (( هلا عمي )) ، تنتقل المذيعة للخبر التالي ، والذي يتحدث عن آخر التطورات في العالم العربي ، وتأكد أن جامعة الدول العربية ستعقد اجتماعا طارئا تبحث فيه سبلا جديدة لقمع شعوبها المتمردة على سياسات حكوماتها الرشيدة وبدون اللجوء إلى العنف ، كي لا يتكرر ما حدث في تونس ومصر ، فهناك اتفاقيات مع أمريكا واسرائيل ولايجوز خرقها ، فالمواطن العربي يجب أن ينحصر تفكيره في الأكل والشرب والنوم فقط ، وهنا يتدخل السائق مجددا : (( إحنا شو بدنا غير هيك ، وعلى رأي المثل : طعمي التم تستحي العين )) ، الركاب لايبدون أية رغبة في التعقيب على كلامه .

الخبر التالي كان مفاده اكتظاظ وسط البلد القديم بأعداد هائلة من المجانين ، وهنا ضرب السائق بكف يده التي تضاهي بضخامتها على ما أعتقد عشرة أضعاف كف قدمه ، فخذ الرجل الجالس بجواره ، كمحاولة لإخضاع سمعه للرواية التي سيسردها عن ذلك الشاب الذي كان يتحدث مع نفسه ، مبتدئا كلامه بالقول : (( صدقني يا خال ، كثير صار عندنا مجانين في البلد ، اليوم مثلا ... )) وقبل أن يتابع حديثه ، ينظر نظرة خاطفة إلى المرآة ويحدق بالركاب الجالسين في الخلف ، ثم يردف قائلا : (( والحكي للجميع )) ، فيرد الركاب عليه وبصوت واحد : (( ولاتهون عمي )) ، ويشرع بالحديث متأثرا وحزينا لما رآه من ذلك الشاب الذي كان من وجهة نظره كوردة جورية أينعت في ربيع العمر ، ويسأل مستنكرا عن السبب الذي أودى به ليصل إلى تلك الحالة المؤسفة ، فيتدخل الراكب الجالس إلى جواره : (( أكيد كان بحب بنت وتركتو لأنو مش قادر يشتريلها بيت )) ، ويعقب الراكب الذي يجلس على يميني بقوله : (( أنا بعتقد إنهم استغنو عن خدماتو في العمل وانضم إلى طابور البطالة )) ، المرأة التي تجلس إلى يساري تشترك في النقاش بقولها : (( يمكن يا جماعة متزوج وراتبو مابكفي طلبات مرتو و أولادو )) ، ينظر السائق مجددا إلى المرآة ، وتتقاطع عيوننا معا ، ثم لايلبث التوجه لي بسؤال كنت في انتظاره : (( وانت يا شب شو رأيك ؟ )) ، فأجيبه وبكل هدوء : (( مش مهم السبب يا خال ، المهم المسبب )) ، السائق جافلا : (( شو يعني المسبب ؟ )) ، استطرد قائلا : (( المسبب هو الذي يؤدي إلى حدوث السبب )) ، السائق يتمتم مع نفسه همسا بعد أن انتقلت عدوى المرض إليه : (( هاظا شكلو الشعب كلو رح يصير مجنون )) .

Followers

Pageviews Last 7 Days