المرأة وحنين الماضي

(( لبيت تخفق الأرواح فيه ... أحب إليّ من قصر مشيد )) ، لماذا تذكرت هذا البيت من الشعر ، والذي يصور حنين زوجة معاوية بن سفيان لديارها في البدو بعد أن سكنت قصور الشام ؟

هل السبب هو قصة الفتاة التي سأرويها لكم اليوم ؟

نشأت (( فيروز )) في أسرة ملتصقة بخط الفقر منذ زمن بعيد ، ومن أول ربيع تفتحت فيه زهور أنوثتها ، كانت تتعرض لمطاردة عشرين شابا على الأقل ، كلما توجهت إلى مدرستها التي تبعد عن منزلها عشرين خطوة بمقياس مشيتها الخجولة ، منهم من كان يلقي لها الأشعار ، ومنهم من كان يغني لها ، ومنهم من كان يفتعل المشاجرات أمامها مع بعض ضعفاء المتنافسين على قلبها ، بغية إظهار مدى قوته ورجولته الزائفه ، فكانت تغمرها في تلك الفترة سعادة لا مثيل لها ، وهي تشاهد في كل يوم صفوفا متبعثرة المواهب ، تطمح في نيل شرف العضوية الدائمة أو المؤقتة في نادي قلبها .

لم يحالف (( فيروز )) الحظ في إكمال دراستها الجامعية ، بسبب عدم قدرة والدها على توفير التكاليف اللازمة لذلك ، فبدأت البحث عن عمل يمكنها من مساعدة أسرتها المكونة من والديها وثلاث شقيقات هي أكبرهن .

وبالفعل حظيت بفرصة العمل كسكرتيرة في عيادة أحد الأطباء ، والذي وقع صريعا في هواها من أول نظره ، ولكنه كان متزوجا ، وهذا جعله يبدأ بالتفكير في كيفية استغلال فقرها لتلبية رغباته الذكورية ، والتي كانت تزداد إلحاحا كلما رمقت عيونه أنوثتها الطاغية في الفتنة ، هل قلت أنوثتها الطاغية في الفتنة ؟ نعم فهذا هو الوصف الصحيح عندما ننظر من منظار أكثر أنماط الرجال شيوعا في مجتمعنا ، والذين يكون لديهم استعداد دائم للتضحية بالغالي والنفيس في سبيل أي امرأة بصرف النظر عن شكلها أو شخصيتها ، فهم يشبهون بذلك بعض الشعوب التي تبيح لنفسها أكل أي شيء من بر أو بحر أو جو .

قررت مراوغة هذا الطبيب المحموم بسحرها ، لكي تحقق من وراء حمى عشقه أكبر قدر ممكن من المنافع المادية ، ونجحت في ذلك دون أن يتمكن الطبيب من أكل ولو كسرة خبز من فرن أنوثتها ، ورحلت للعمل في عيادة أخرى ، وذلك بعد أن تمكنت أيضا من مراوغة طبيب آخر كان يصادفها في المصعد ، وبما أن مكان عملها كان في مجمع للعيادات الطبية ، فلقد كان ذلك كافيا لها لجمع مبلغ لا بأس به من المال ، أثناء تنقلها بين العيادات في مختلف الطوابق التي عملت بها .

تنتقل بعدها للعمل كسكرتيرة لمدراء أحد البنوك ، والذي شاهدها أثناء زيارته لأحد الأطباء الذين كانت تعمل لديهم ، وهذا جعل حياتها تنقلب رأسا على عقب ، لأن عروض الزواج انهالت عليها من كل حدب وصوب من قبل موظفي البنك ، ولقد تم اختيارها للعريس بعد دراسات اعتمدت في المقام الأول على إمكانياته المادية قبل العاطفية .

وبعد الزواج يطالبها زوجها بترك العمل والتفرغ التام لشؤون المنزل ، هل قلت منزل ؟ أعتذر ، أقصد (( الفيلا )) التي ماكانت لتحلم في أسعد أحلامها بمجرد رؤيتها وليس سكناها .

كان والد الزوج من أثرياء المدينة ، وفي الواقع فإن عمل زوجها في البنك لم يكن له من ضرورة البتة ، سوى إصرار والده على بقائه في العمل هنالك لفترة يكتسب معها الخبرة اللازمة ، والتي ستمكنه من إدارة أعمال والده مستقبلا ، وما كان هذا الإصرار إلا دربا من دروب القدر الذي عبرت منه (( فيروز )) لفرصة عمرها في حدوث ذلك الزواج .

لقد تم تلبية كل أمنياتها وتحقيق كل أحلامها ، وكأنها عثرت على مصباح علاء الدين السحري ، فلا يتأخر ماردها ، عفوا ، زوجها عن تحقيق أي أمر تريده ، وهكذا انقسمت حياتها بين معيشتين متناقضتين تماما ، فحش الفقر وفحش الثراء .

وفي ذات يوم بينما كانت تتابع مع زوجها نشرة الأخبار ، يرد خبر عاجل عن تصدع بيوت في الحي الذي ولدت وترعرعت فيه ، فإذا بعيونها تحدق بصورة منزلها ، لتعود بها الذكريات إلى هناك ، متمنية زوال كل ما هي فيه الآن ، في سبيل عودة يوم واحد من ماضيها في ذلك الحي .

وهنا تدخل الراوي (( أشرف )) بعد أن تذكر أيضا قصة امرأة سيدنا لوط عليه الصلاة والسلام عندما نظرت إلى الخلف ، فلحقها مع قومها العذاب وتحولت إلى حجارة من الملح ، ليسأل (( فيروز )) والنساء : (( ما هو سر حنينكن الدائم للماضي مهما كان قاسيا ؟ )) .

Followers

Pageviews Last 7 Days