سؤال التيتانك

في عام (( 1997 )) كان قطار عمري قد تجاوز ثماني عشرة محطة ، وكنت كلما أمعنت النظر في أرقام تلك السنة ، أجد تطابق خاناتها مع العام الذي جئت فيه لهذه الدنيا باكيا ، ولكن مع استثناء ذلك التغيير الطفيف الذي نشأ بعد الإتفاق المبرم بالتراضي بين الرقم (( 7 )) والرقم (( 9 )) على تبادل أماكنهما ، وبحضور الشاهد (( ز . ن )) الذي لا تتوقف عجلته عن دورانها السريع .

كان يقف هناك بالقرب من (( دوار عبدون )) ذلك المبنى الذي تهافت عليه السكان من مشارق العاصمة ومغاربها ، حتى بات الدخول إليه شبه مستحيل في أيام العطل الرسمية دون حجز مسبق ، ولقد كانت تأشيرة عبوره لشاب مثلي في سنته الجامعية الأولى ، تعني التخلي عن نصف مصروفه الأسبوعي البالغ عشرة دنانير ، ولذلك كنت أكتفي أنا وأصدقائي بالتجوال على أرصفة حدوده المزدحمة على مدار العام .

كنت في تلك الأيام أعشق مشاهدة الأفلام الرومانسية ، وأفترس أية فرصة تمكنني من مشاهدتها ، ولكن الخيارات التي كانت متاحة أمامي انحصرت بأشرطة (( الفيديو )) وكرم معدي برامج محطات التلفاز الأرضية ، فالتكنولوجيا في ذلك الوقت كانت لاتزال تأتي إلينا كحبيبات الدواء التي يتم قطرها في فم طفل صغير ، ولم تكن إلا في متناول من كان في جيوبه مال وفير .

ومع بداية عام (( 1998 )) كانت لحظة تمردي الكبرى على كل ميزانيات المصاريف وعجزها ، وذلك بعد أن خرج طيف سفينة (( التيتانك )) من قعر المحيط الأطلسي ليرسو فوق ميناء اللوحات الأعلانية لذلك المبنى الذي زادت نرجسيته وغروره وهو يشاهد زحف الأفواج الهائلة التي حضرت إليه متوسلة لتحظى بأدنى فرصة لمشاهدة ما سيحدث فوق سطح تلك السفينة العظيمة التي جعلت القائمين على صناعتها يتجرأون على خالقهم في إمكانية غرقها ، ولكن جبل الجليد نقل رسالة الخالق على غطرستهم من أول رحلة لها .

ابتسم لي الحظ منذ يوم العرض الأول لذلك الفيلم ، إذ قرر المبنى المغرور أن يضيف حفلة عرض استثنائية في منتصف الليل ، ولقد كان ذلك القرار كافيا لتدفق أشخاص مثلي إليه كالسيل ، ولست أدري لماذا وأنا أشرع بالدخول إلى ذلك المبنى ، تذكرت مركز مدينة عمان القديم (( البلد )) الذي عشت فيه أجمل ذكريات طفولتي عندما كنت أعمل مع والدي في متجره المزروع هناك من بداية خمسينيات القرن الماضي ، كانت (( البلد )) بالفعل بلد ، إليها كان مقصد زوار المطاعم والمحلات التجارية ودور السينما والمقاهي والمكتبات ، هي أصالة (( العمانيين )) ولكنها أمام ذلك المبنى المغرور لم تكن سوى امرأة طاعنة في السن ، لم يعد يكترث لأمرها أحد ، بعد أن كانت محبوبة قلوبهم دون منازع .

أتابع الفيلم بكل اهتمام وأسافر مع السفينة في رحلتها التي انطلقت من ميناء (( ليفربول )) ، وألاحظ على متنها الصراع الأزلي بين الطبقة الغنية والفقيرة ، والذي لم تنجو منه البشرية في البحر كما في اليابسة ، ولكن ذلك الصراع اللامتناهي لم يقف حاجزا أمام قصة الحب التي نشأت بين ذلك الرسام الفقير وتلك الفتاة الإرستقراطية ، حتى تأتي اللحظة الحاسمة وترفض أشلاء القطع الخشبية للسفينة البائدة احتوائهما على سطحها معا ، فيقرر هو الهبوط إلى المياه المتجمدة لتبقى هي على سطح اللوح الخشبي ، ويموت بردا في سبيل فرصتها بالحياة ، وعند تلك اللحظة بالذات كان صوت المرأة التي تجلس أمامي قد ارتفع بسؤال استنكاري عنيف للرجل الذي كان يجلس بجانبها : (( لو كنا مكانهم فهل ستضحي بحياتك من أجلي كما فعل جاك )) ، ولكن الرجل ظل صامتا ولم ينطق بأية كلمة .

وتمضي الأعوام وندخل من بوابات قرن جديد من الزمان ، ويشرف العقد الأول منه على الإنتهاء ، وتصبح التكنولوجيا متوفرة في بلدنا أكثر من الماء ، ويزول المبنى المغرور ويصبح بائدا كسفينة (( التيتانك )) في قعر أراضي (( عبدون )) ، إلا أن معدي برامج إحدى القنوات الفضائية يعيدون عرض الفيلم قبل عدة أيام ، فيدفعون بمعشر الرجال مجددا إلى فخ الحرج الذي لم تقدم فيه السنين والأيام يد المعونة لهم لكي يتخلصوا من براثنه ، لتباغتني زوجتي بالسؤال ذاته ، وأصمت أنا تماما كذلك الرجل .

فمتى سينتهي سؤال (( التيتانك )) ؟

Followers

Pageviews Last 7 Days