قصة صديقين

لم تمنع خطوات السنوات الثلاثة التي يسبق فيها أحدهما الآخر في درب العمر ، حدوث شرارة صداقة ستمتد بعدها لعقدين من الزمان ، ومع أنها لم تبدأ مشتعلة كحرائق الغابات التي مهما التهمت من أشجار الأيام لتبقى ، لا بد أن تتلاشى في النهاية إلى سحابة دخان أسود ، لتتناثر في سماء الزمان ولايظل منها إلا رماد تدوس عليه أقدام الجفاء والهجران .

ولذلك كان اللقاء الأول بينهما أشبه ببذرة نبتة ستكبر وتروى بمحبة صادقة تجمعهما ، دون حاجة للتغذية من أسمدة المصالح التي كان من الممكن أن تجعل ثمارها دون طعم ولامذاق ولا لون ، ومن ثم لا تلبث أن تموت جذورها عند زوال تلك الأسمدة من تربتها التي ما كانت في يوم خصبة بمعنى الكلمة .

كانا يكتفيان في كل تلاق لهما عند منعطفات السنين بتبادل الأحاديث العابرة في مدتها والعميقة الأثر في سقاية نبتة صداقتهما التي كانت تكبر وتكبر ، إلى أن يحين موعد انطلاق الرحلة القادمة في دروب الأيام برفقة أصدقاء آخرين ، ومع نهاية كل رحلة كان يتجدد اللقاء والتوقف عند منعطفات أخرى ، تسبق دروب أعمارهما التي ازدادت معرفة وخبرة وتجربة في كيفية اختيار رفقاء الدرب القادمين .

كانت الهوايات والاهتمامات مشتركة بينهما دوما ، وهذا ما كان يجعل لقاءهما عند المنعطفات يتكرر بين الفينة والأخرى ، فبدءا من مباريات كرة القدم التي شهدت ملاعبها في الحارات والمدارس الكثير والكثير من ذكرياتهما الجميلة ، ومرورا بتلك الدكانة التي كانت ملاذهما في كل صباح ومساء ، لينفثا فيها السجائر بعيدا عن عيون المعارف والوشاة ، والذين قد يحملوا رسالة فتنة مستعجلة إلى آبائهم تكون سببا في حرمانهم من المصروف لأجل غير مسمى .

وها هما يتوقفان عند أكبر المنعطفات التي جمعتهما في صالات البلياردو والسنوكر ، والتي كان فيها من سبق بمهارته وخبرته ، هو أيضا من كان يتقدم بخطوات السنوات الثلاثة ، إلا أن هذا لم يمنعه من نقل معرفته وخبرته إلى صديقه ، الذي بات متعلقا به مع كل درس جديد بشكل أكبر ، ويتشوق لتلك اللحظة التي يجلس فيها معه في حديقة منزله بعد منتصف الليل ، ليحدثه عن ملخص (( الماراثون )) الذي جمعهما في مباريات تلك الليلة ، وملاحظاته وتوجيهاته التي كان يدلي بها بكل أمانة وعفوية ، طمعا منه بمشاهدة صديقه في اليوم التالي بمستوى أفضل .

ولكنه قرر فجأة ترك ذلك المنعطف ليمضي وحيدا دون رفقة صديقه ، والذي كانت مفاجأته الكبرى في ابتعاده عن تلك اللعبة التي كان يعشقها أكثر من أي شيء آخر في هذه الدنيا ، فما كان من صديقه سوى الاستمرار في الوقوف عند ذلك المنعطف إلى وقت محدود ، ليقرر بعدها اللحاق بصديقه مجددا لعله يجده واقفا عند منعطف آخر ، فهو بعد أن بات وحيدا ، فقد قدرته على اللعب بمهارة وحماس وانحدر مستواه بشكل عجز دوما عن فهم أسبابه الحقيقية ، ولكنه أدرك حينها أن حماسه وتلهفه كان مرتبطا بوجود صديقه الذي رحل .

وتمكن أخيرا من اللحاق بصديقه والالتقاء معه عند منعطف جديد ، كان بالنسبة لهما أشبه بعالم جديد أو حياة أخرى ، إنه عالم الشبكة العنكبوتية ، وبدأ كل منهما الإبحار في استكشاف أسرار مواقعه المختلفة ، وفي نهاية كل ليلة بعد خروجهما من مقهى الإنترنت ، كانا يمضيان في السيارة إلى مكانهما المفضل في الماضي عند مرتفعات (( الجبيهه )) المطلة على (( البقعة )) ، يتحدثان ويتسامران وهما ينظران إلى بيوتاتها المتلألأة ليلا بمنظر بديع ، يسافر بأرواحهما بعيدا عن الواقع الذي بدأ بظلم أحلامهما كثيرا ، وعلى صوت قيصر الغناء العربي (( كاظم الساهر )) يدندنان معه أغاني الشريط الذي ظل ملتصقا في ذاكرتهما إلى هذا اليوم (( قصة حبيبين )) .

الصديق المتأخر بخطوات السنوات الثلاثة ، ولأول مرة منذ بداية صداقتهما ، يترك صديقه عند هذا المنعطف ويرحل بشكل مفاجىء وهو لايزال في الرابعة والعشرين من عمره ، سائرا إلى درب إكمال نصف دينه ، وهذا تسبب في انحسار لقاءاتهما التي كانت يومية ، لتصبح أسبوعية أو شهرية أو ربع سنوية ، وذلك عندما يعود الصديق المتزوج إلى فترة عزوبية مؤقتة عند سفر زوجته لزيارة أهلها ، أو عند الذهاب للمقهى لحضور مباريات معشوقهم الأول والأخير (( زين الدين زيدان )) .

ولكن هذا الحال لم يعجبهما ، فهما متعلقان ببعضهما أكثر من تعلق الأغصان بجذوع الأشجار ، والتي مهما هوجمت من عواصف وأعاصير رياح الزمان ، لا تتمكن من النيل إلا من أوراقها التي سرعان ما كانت تنمو مجددا بالأشواق والحنين والمودة الصادقة ، والتي سطرت في صفحات حياتهما أجمل الدروس في علاقات الصداقة الحقيقية .

وعادت اللقاءات تتجدد ولو لساعة واحدة في كل ليلة ، وعاد الصديق المتأخر بخطوات السنين إلى مقعده مجددا في الاستماع والتعلم والنقاش والحوار ، وتبادل الخبرات والأخبار مع صديقه الذي كان كعادته لا يبخل عليه في أية معلومة أو تجربة أو خبرة تعلمها من مدرسة الحياة .

وكعادته عاد الصديق المتقدم بخطوات السنين ، ليرحل إلى منعطف جديد ، وأبدع فيه كعادته منذ لحظة وصوله الأول ، وبدأ يقنع صديقه بالقدوم إليه والتواجد هناك سويا كما كانا دوما عند كل منعطف ، وبالفعل لبى الصديق النداء دون تأخير ، واستمع لكل نصائح وتوجيهات صديقه منذ لحظة البدء الأولى ، حتى أن صديقه هو من اختار له اسم الركن الذي سيقف عنده في ذلك المنعطف ، بل كان هو الملهم له في العديد من الأفكار والتساؤلات التي انطلقت من ذلك الركن ، الذي لولا مشيئة رب العالمين بدءا ، وهو ثانيا لما كان موجودا اليوم .

في كل يوم كان الصديق المتأخر يتعلم من صديقه درسا جديدا في كيفية الوقوف عند ذلك المنعطف ، وكان يعتبره دوما قدوته ومثاله الأعلى كما كانت عادته عند كل المنعطفات السابقة ، فلقد كان صديقه في كل المنعطفات موهوبا وبشكل استثنائي ، وهذا ما كان يجعل لقبه بالإسم والفعل معا ، فهو نادر بكل معنى الكلمة .

الآن وكما حدث عند كل المنعطفات ، يترك (( النادر )) هذا المنعطف ويرحل إلى درب ليس واضح المعالم بعد ، فهل سيفقد الصديق المتأخر حماسه كعادته عند رحيل صديقه ؟ أم هل سيقف عند هذا المنعطف وينتظر لحظة عودة صديقه ومعلمه وملهمه ؟ ليكتبا معا تجارب حياتهما التي لابد أن تنصفهما في يوم من الأيام .

هذا الإدراج هو إهداء متواضع مني إلى صديقي عمري الذي يغيب حاليا عن ساحة التدوين (( نادر أحمد )) ، وصدقا مهما قلت من كلمات ، فلن أعبر له أبدا عن مدى محبتي وتعلقي به ، ومهما شكرته فلن أوفيه حقه أبدا ، لأنني تعلمت منه أجمل الدروس ، ليس في عالم التدوين وحسب ، بل في حياتي بأكملها ، وتبقى تساؤلاتي كعادتها في نهاية الإدراج لأقول له : (( عند أي منعطف سنقف يا صديقي مستقبلا ؟ )) .

Followers

Pageviews Last 7 Days