قراصنة الدم

عاد فؤاد إلى المنزل مسرعا على غير عادته بعد خروجه من المدرسة وما لبث أن توجه إلى غرفة والدته التي ترقد على سرير المرض منذ شهور عديدة وبدأ بمداعبة خصلات شعرها التي انسدلت فوق عيونها التي جفت فيها الدموع من كثرة الألم ، فقال لها : (( يما... يما ... خلص بكرة انشالله رح أجيبلك الدوا )) ابتسمت الأم وقالت : (( كيف يما بدك تجيبو وفي غزه كلها ما في دوا )) فقال لها وهو يقبل يدها ويبكي : (( اليوم بالمدرسة كاللنا الاستاذ إنو بكرة رح تيجي سفن في البحر ومعاها أكل وشرب ودوا علشان تساعدنا )) ، فقالت الأم وقد بدأت بوادر الأمل على محياها : (( الله يجزيهم الخير ويوصلو بالسلامه يا بنيي )) .

أما أبو علي فقد كان يجلس أمام منزله الذي دمرته الطائرات الصهيونية ويقلب كفيه كعادته على تشرده هو وزوجته وأولاده بين بيوت الأقارب بعدما عجز عن إعادة بناء منزله بسبب عدم توفر المواد الإنشائية في غزة ، وبينما هو غارق في سبات حزنه العميق يحضر فؤاد إليه ليبشره قائلا : (( عمي أبو علي خلص رح ترجع تبني الدار من جديد)) استيقظ أبو علي من حزنه وأمسك بيد فؤاد قائلا : (( كيف رح أبنيها يا فؤاد ؟ مش وكت مزحك هسه )) فقال له فؤاد وهو يضمه ويقبله : (( بكره رح تيجي يا عمي سفن بالبحر ومعاها مواد بنا كثيرة ورح يوزعوها علينا ، هيك سمعت من الاستاذ بالمدرسة اليوم )) ، فهلل أبو علي وكبر وحمد الله تعالى على اقتراب الفرج عليه وعلى عائلته .

ولم يكن حال المعلمة ندى بأفضل من حال خالها أبو علي بعدما فقدت والدها وشقيقها في قصف جوي للطائرات الصهيونية في الحرب الأخيرة على غزة ، فهي تعيش مع شقيقتها الصغيرة أمل التي دخلت بوابة الحياة على فاجعة يتمها المبكر لوالدتها التي ماتت أثناء ولادتها في الحرب ، كانت ندى تجوب شوارع غزة في كل يوم لتبحث عن الحليب لشقيقتها ، أليست أمل طفلة كباقي أطفال هذا العالم من حقها أن تشرب الحليب ؟!!

مع ساعات الفجر الأولى من يوم الأثنين ( 31 أيار 2010) استيقظ فؤاد وخرج من المنزل مسرعا نحو الميناء ليجد حشودا هائلة من أهالي غزة يرابطون هناك بانتظار سفن الأمل التي تحمل معها أحلاما طال انتظارها بكسر بعض حواجز حصار الجوع والعطش ومكابدة الألم والمرض والتشرد .

ولكن تلك السفن لم ترسو على شواطىء غزة لأن طائرات القراصنة السفاحين سبقت رياح أنفاس أهالي غزة التي كانت تدفع أشرعتها ، هؤلاء القراصنة المجرمون لا يشبهون قراصنة البحر الذين كنا نسمع عنهم فهم لم يقطعوا الطريق على سفن محملة بالكنوز والأموال بل حضروا بطائراتهم العامودية وهبط قراصنتهم على متن سفن تحمل الغذاء والدواء لشعب له الحق في الحياة كغيره من شعوب هذا العالم .

كان شهداء أسطول الحرية يسابقون أمواج البحر ليرسموا بسمة الحياة على شفاه أهل غزة ولكن رصاصات القراصنة الصهاينة أحبطت مخططاتهم الإنسانية لأنها تعتبر تهديدا لأمن دولة السفاحين ومصاصي دماء اللحوم البشرية ، فرحمة الله عليكم يا شهداء سفن الحرية وكان الله في عونكم يا من تقبعون الآن في معتقلات هؤلاء المجرمين وأسأل الله تعالى أن يعجل بفك أسركم وعودتكم إلى أهلكم سالمين غانمين .

لست أدري يا غزة هاشم أأنت المحاصرة أم نحن المحاصرون ؟

نعم حاصروا غزة وحرموا أهلها من الغذاء والدواء ولكنهم لن يتمكنوا من النيل من عزتها وكرامتها ومقاومتها المقدسة أما نحن فمحاصرون بحواجز الذل والهوان وطأطأة الرؤوس ودفنها في التراب ، شعوب العالم هبت لنجدة أهل غزة بكل شجاعة وبدون أدنى تردد من خلال قافلة الحرية أما نحن فوقفنا عاجزين عن نصرتهم وكعادتنا استعرضنا خطبا كلامية لا تسمن ولا تغني من جوع ، أحقا هتافات الأمس أيتها الشعوب العربية ستكسر حواجز حصار الكلام وتأخذ حيز التطبيق ؟

لا زلت أذكر إحدى خطب صلاة الجمعة أيام حرب غزة عندما توجهت الجموع للتظاهر أمام السفارة الاسرائيلية في عمان حيث قال الخطيب يومها : (( يا إخواني لا بد من المحافظة على العلاقات مع إسرائيل لكي نستطيع إدخال المساعدات إلى الأهل في غزة وليس من الحكمة أبدا أن نطالب بطرد السفير )) أين أنت الآن يا من تحدثت بهذا الكلام الفارغ ؟ هل استطعنا أن نفعل شيئا لأهلنا هناك من خلال تلك الحكمة التي تحدثت عنها ؟

اجتماعات للأمم المتحدة وجامعة الدول العربية ومؤتمرات نقابية واسلامية وغيرها كثير وكله هراء وأقولها أمام العالم كله ، فهناك شعب محاصر أيها العالم والقضية لا تحتاج إلى التفكير والتدبير والشجب والاستنكار ، متى سيتوقف هذا المسلسل الهزلي في تاريخ أمتنا ؟

نستنكر ونشجب جرائم الصهاينة بحق شعبنا ولانلبث أن نسرع في النسيان والانغماس من جديد في شعارات عنوانها (( اللهم نفسي )) فيخرج علينا منظرون يطالبون بضرورة التفكير بأوضاعنا المعيشية الصعبة التي نواجهها وأن حالنا ليس أفضل بكثير من أهلنا في قطاع غزة ، كلا وخسئتم أيها المنظرون الملاعين فلن ننصرف بكلامكم الفارغ هذا عن المطالبة بفك الحصار عن غزة ولن نخمد نيران غضبنا في هذه المرة ولن نرضى بجرعات مسكنة من اجتماعات ومفاوضات ومرافعات سياسية تذهب أدراج الرياح في محاكم الظلم الدولية .

يا رب العالمين وأنت وحدك القادر على قهر أحزاب هذا الحصار الظالم ، نرفع أكفنا إليك بالدعاء أن تعجل الفرج على أهلنا في غزة ، اللهم أغثهم وكن لهم ناصرا ومعينا ، برحمة من عندك يا أرحم الراحمين .

Followers

Pageviews Last 7 Days