احتقار الغريزه

صديقي (( الدنجوان )) رجل ذائع الصيت بين الأوساط الأنثوية من مختلف الأعمار ، يمتلك متجرا للألبسة النسائية في منطقة الصويفية الواقعة غرب العاصمة عمان ، ولقد كان شغف النساء بمظهره وأسلوبه في البيع ، يجعل مبيعات متجره دوما هي الأعلى بين منافسيه ، فلا الوضع الاقتصادي السائد ولا الفترات الزمنية الفاصلة للمواسم والمناسبات تؤثر على مبيعاته المزدهرة طوال العام .

وبعد سنوات عديدة من مشواره (( الدنجواني )) الذي لم يكن له من مثيل ، كانت فجيعته بموت والده الذي كان يحبه حبا شديدا ، فتذكر نصائحه التي لطالما كان يسأم من سماعها ويستعجل طردها من إذنه اليسرى بمجرد دخولها من بوابة أذنه اليمنى ، تلك النصائح التي كانت تدعوه إلى الزواج والاستقرار والابتعاد عن تلك الممارسات الصبيانية التي ستودي به حتما إلى طريق الهلاك في الدنيا والآخره .

وتزوج (( الدنجوان )) وقطع عهدا على نفسه أن ينسلخ عن ماضيه ويبدأ مشوار الحياة من جديد ، و قرر الابتعاد عن كل أجواء الفتنة التي كانت تثير شهواته وغرائزه .

وفعلا بدأت مظاهر التغيير بالظهور على (( الدنجوان )) في كافة جوانب حياته ، من التقيد بالصلاة في مواعيدها ، من غض البصر وحفظ اللسان ، حتى أنه أصبح يتجنب المواجهة المباشرة مع زبائنه ، وذلك بعد أن اعتزل بنفسه في مكتبه على الطابق الثاني للمتجر ، و بات يجلس فيه طوال الوقت ، ليترك مهمة البيع التي كان مهووسا بها للموظفات العاملات لديه .

و في أحد الأيام وبينما كان (( الدنجوان )) جالسا على مكتبه يقرأ في رواية تتحدث عن الصراع بين الغرائز والقيم الإنسانية العليا ، سمع صوتا مطابقا تماما لصوته شرع بمناداته ، فالتفت مذعورا خلفه ، فوجد شخصا يشبهه في أيام (( دنجوانياته )) حد التطابق ، كان جسمه يشبه عارضي الأزياء ، تناسق وتناغم بين نصفه الأعلى ونصفه الأسفل بعكس ماهو عليه حاليا من تضخم نصفه الأعلى وانتفاخ بطنه كالمرأة التي في منتصف فترة حملها ، أما شعره الأسود المتلألأ الطويل الذي تنسدل منه خصلات تلامس حافة حاجبه الأيمن ، فيختلف كثيرا عن مظهر شعره القصير الذي فقد بريقه ولمعانه و امتزج بمساحات شاسعة من اللون الأبيض ، لقد كان وجهه مشرقا بالحيوية والشباب بينما وجهه الآن يشبه الرجل العجوز الذي ينتظر لحظة رحيله إلى ديار الحق .

قال له (( الدنجوان )) : من أنت ؟

فأجاب : أنا غريزتك التي تحتقرها وتلعنها بالسب والشتم في كل يوم وليله .

- أنت شيطان ابتعد عني .

- لقد ابتعدت عنك بالفعل وها أنا الآن أصبحت شخصا مستقلا عنك .

- إذن اغرب عن وجهي .

- لا أستطيع فأنا جزء لا يتجزأ من تكوينك الخلقي .

- وماذا تريد مني الآن ؟ .

- أريد أن أسألك عن سبب احتقارك لي بهذه الطريقة ؟

- حسنا أنت مصدر كل شر وأثم لي في الماضي وحتى بعد زواجي كنت تلاحقني وتطاردني دائما ولذلك وجدت أن أفضل الطرائق للتخلص منك هو احتقارك والاشمئزاز منك و كان سبيلي لتلك الغاية هو افتراض أنك غير موجود وهذا ما جعلني بالطبع أفترض أيضا عدم وجود مايسمى بالنساء ، فقررت أن اعتزل زوجتي أيضا حتى أرتاح منك ومن شرورك .

- دعنا الآن من هذا الحديث وقم بتشغيل شاشة الحاسوب .

- لماذا تريدني أن أفعل ذلك ؟

- ألا تهتم لشؤون عملك أيضا ؟

- بلى .

- إذن ألا تريد مراقبة سير العمل في الأسفل ؟ إن عدم اكتراثك بذلك قد يؤدي إلى عواقب وخيمة ، ألا تؤمن بمقولة : (( المال السايب بيعلم السرقة )) .

- معك حق ... معك حق ... لابد من تشغيل كاميرات المراقبة لأرى مايحدث في الأسفل .

وبمجرد قيامه بتشغيل الشاشة التي أنقسمت إلى ستة مربعات يمكن من خلالها مشاهدة الأقسام المختلفة للمتجر .

يصرخ رجل الغريزة قائلا : انظر .... انظر بسرعة إلى المربع الذي في أقصى اليمين .

يلتفت (( الدنجوان )) إلي المربع الذي أشار إليه فيجد امرأة متوسطة العمر تتفحص القمصان على المشجب ، فيقول له : لا أرى شيئا يستدعي الاهتمام .

فيقول رجل الغريزة : ماذا ؟ انظر إليها مليا إنها من نوع النساء الذي كان مفضلا لديك في الماضي ، البشرة ذات اللون الحليبي الأبيض ، الطول المتناغم مع جسد ممتلىء ، العيون العسلية ، الشعر الأسود الناعم كالحرير .

- اصمت ... اصمت ... كفى يا حقير .... توقف عن إغوائي .

- العيون العسلية .

- قلت كفى أنت حقير .... أنت مشمئز .... أنت لعنة ما بعدها لعنه .

- العيون العسلية .

- هذا هو السبب الذي دفعني للإعتزال لأنني كنت أعلم تماما أن وجودك في حياتي سيجعلني تافها وسخيفا طوال حياتي ولن أرقى أبدا إلى القيم الإنسانية العليا ولن أتحلى بمكارم الأخلاق .

- العيون العسلية .

واستمر (( الدنجوان )) بالصراخ دون توقف وهو يقول : ابتعد .... ابتعد .... ابتعد ، حتى حضرت إحدى الموظفات مسرعة إليه لتستطلع مايحدث وعندما وصلت إليه ، وجدته غارقا في سبات عميق ، فاقتربت منه وأيقظته ، فنظر إليها وكأنه لا يصدق أنه كان يحلم ، وطلب منها أن تحضر له كوبا من الماء .

Followers

Pageviews Last 7 Days