قصتي مع قلعة عجلون

عندما كنت اقترب في مشوار عمري من نقطة الربع قرن ، كانت لي طقوس لا أتخلف عن ممارستها بعد منتصف ظهيرة كل يوم جمعه ، فبعد تناول وجبة الغداء التي لا يتغير المقطع الأول من اسمها (( مقلوبة زهره أو باذنجان أو فول )) ، وبعد أن أحتسي كوبا عملاقا من القهوة المكتظة في أعماقها بالبن والسكر ، أسرع بالتوجه إلى مركبتي وانطلق في رحلتي الأسبوعية المعتادة .

أعبر شوارع العاصمة عمان التي تكون حركة السيارات فيها كالسيل الخجول شبه الراكد ، فتتابع أعصابي قيلولتها على سرير من الهدوء والسكينة ، وأودع مدينة الجبال السبعة عند (( دوار صويلح )) متجها إلى الشمال الغربي منها .

وقبيل الوصول لمنطقة ( الرمان ) تصبح الطريق شديدة الانحدار نحو الأسفل ، مما يجعل أعصابي تتململ كمن يوشك على الاستيقاظ من نومه ، ولكنها سرعان ما تأخذ نفسا عميقا وتتابع قيلولتها بمجرد رؤية الجبلين العظيمين المتقابلين عند نهاية المنحدر ، وقد انغرست فيهما بكثافة أشجار الصنوبر الخضراء ، مما يجعل لساني أمام جمال وروعة ذلك المشهد البديع ينطلق في ترديد كلمتين دون توقف (( سبحان الله )) .

أتابع المسير بين ارتفاعات وانحدارات ، وعندما أقترب من المدخل الجنوبي لمدينة (( جرش )) لا أفوت مشاهدة مياه (( سد الملك طلال )) و التي تفترش كالبساط الأزرق في أسفل الوديان ، وأسأله تعالى أن يرتفع منسوب السدود بأمطار الخير والبركة مع كل موسم أكثر وأكثر .

بمجرد دخولي لمدينة (( جرش )) تبدأ رائحة شواء اللحم المنبعثة من مداخن المطاعم المنتشرة على جانبي الطريق بمداعبة أنفي ، ولكنها لا تتمكن من إثارة لوعة معدتي المنهمكة بهضم (( المقلوبه )) ، وعندما أصل إلى مفترق الطرق الذي سيقودني إلى (( عجلون )) أتوقف عند الإشارة الضوئية التي تتواطؤ بشكل عفوي وغير مقصود مع البوابة الجنوبية لآثار المدينة الرومانية القديمة ، فتعود بي الذكريات إلى حفلات ماجدة الغناء العربي في مهرجان (( جرش )) للثقافة والفنون ، ذلك الزمن الجميل للفن الأصيل ، عندما كانت مسارح (( جرش )) تستقطب الأدباء والشعراء والفنانين المسرحيين وفرق الرقص الاستعراضي من كافة أقطاب الدنيا ، كنت في بداية العقد الثاني من عمري في ذلك الحين ولكنني لا أزال أذكر كل تلك التفاصيل ، وأذكر صوت (( ماجدة الرومي )) في الحفلة التي قدمت فيها لأول مرة رائعتها (( سقط القناع )) على المسرح الجنوبي وهتاف الجماهير العريضة معها على المدرجات بصوت واحد : (( فإما أن تكون أو لا تكون ... فأنت الآن حر وحر وحر )) .

أستيقظ من غفوة تلك الذكريات الجميلة على صوت (( زمامير )) السيارات الغاضبة من خلفي بعد أن يسقط الضوء الأحمر للإشارة من عدستها العليا إلى عدستها السفلى فيتوهج متأثرا من تلك السقطة باللون الأخضر ، ولا يسعني حينها إلا أن ألقي تحية الوداع على (( جرش )) بتنهيدة عميقة وانحرف في طريقي باتجاه الغرب قاصدا مدينة (( عجلون )) .

وبعد أن أتجاوز حزمة من السلاسل الجبلية الخضراء المدهشة في جمال طبيعتها الخلاب ، يلوح في الأفق ذلك الجبل الشاهق في الارتفاع حيث تربض فوق قمته (( قلعة عجلون )) ، تلك التحفة المعمارية الإسلامية التي بناها (( عز الدين بن أسامة بن منقذ )) أحد قادة الناصر صلاح الدين الأيوبي والتي تم بناؤها في القرن الثاني عشر للميلاد لتكون نقطة انطلاق لجيوشه المتوجهة صوب عروس المدائن (( القدس )) .

كنت بمجرد دخولي لبوابة القلعة أسمع صوت هؤلاء الأبطال الذين أقاموا فيها في يوم من الأيام ، بل كنت أتطرف في توحدي مع ذلك العصر لدرجة أنني كنت أتخيل عثوري على آلة الزمن التي تأخذني إلى تلك الأيام ، فأعيش كل تفاصيلها وبطولاتها لحظة بلحظة ، وكم كنت أشعر بنشوة لا يمكن وصفها في متن أية حروف وأنا أقف على سطح أسوار تلك القلعه وكأنني أستطلع أخبار مدينة القدس وأشاهدها أمامي في تلك اللحظات ، وكم كنت وأنا أتجول بعيوني بين سلاسل الجبال التي تحيط بالقلعة من كل الإتجاهات وقد اكتست بأشجار الصنوبر والبلوط والسنديان ، أسأل نفسي عن السبب الذي يجعلني أقف هنا في كل يوم جمعه ؟

في هذه الأيام لم تتغير طقوسي في يوم الجمعه ، فلا يزال الاختلاف على تسمية المقطع الثاني من (( المقلوبه )) قائما ، ولازلت أحتسي كوب قهوتي المعتاد ، إلا أنني انقطعت عن زيارة (( قلعة عجلون )) فبورصة النفط جعلت سيارتي لا تتحرك إلا عند الضرورة القصوى ، ولست أدري فقد تكون بورصة القهوة والأرز واللحوم والزهرة والباذنجان والفول سببا في تغيير طقوسي الأخرى ، ولكن المحبة الصادقة لثرى فلسطين و الأردن ووطني العربي الكبير لن تخضع في يوم من الأيام لقوانين بورصات الكلام والاستعراض ، فالمحبة الحقيقية أفعال وليس أقوال .

Followers

Pageviews Last 7 Days