قلب فتاة بين الماء والنار

أنا اسمي (( ميس )) وسأروي لكم اليوم حكايتي التي تسببت في رحيل بصري وإلى الأبد ، فأنا لست كفيفة الآن بل كنت كذلك في الماضي ، فالأعمى في الواقع ، ليس من لايبصر الأشياء بعيونه بل هو الذي لا يتمكن من تمييز الصحيح من الخاطىء .

لقد كنت مهندسة معمارية متميزة وأنا لم أتجاوز السادسة والعشرين من عمري بعد ، موهوبة ومثابرة ومجتهدة ، مما كان يجعلني دوما محورا جوهريا لنظرات الإعجاب والاهتمام من قبل كافة زملائي المهندسين ، وبالطبع فإن أنوثتي كانت تحتل مرتبة الصدارة بين كافة زميلاتي في المكتب ، وليس هذا وحسب ، بل كنت أيضا أهزمهن جميعا في ثقافتي ومعرفتي في كافة أمور الحياة الأخرى ، وهذا ما جعلني أحتكر كافة الفرص المتاحة لمشاريع عروض الزواج المحتملة ضمن نطاق الحدود الجغرافية لمكان عملي .

كان في مكتبنا خمسة مهندسين ، ولكنني لم أكن منجذبة إلا للمهندس (( هيثم )) ذلك الشاب الأسمر ، طويل القامه ، ذو العينين العسليتين ، و الابتسامة المربكة التي تهوي بي في حفرها العميقة المنغرسة على وجنتيه ، وماذا أقول عن أناقته وهندامه ؟ بل ماذا أقول عن رائحة عطره ؟ تلك التي كانت بمجرد مداعبتها لأنفي أشعر بتقلصات في جدران قلبي كتلك التقلصات التي تصيب المعدة بمجرد انبعاث رائحة طعام لذيذ بعد ساعات من الجوع الشديد ، لقد كان (( هيثم )) جادا في عمله ولم يكن يشاركنا في وقت استراحة الغداء ، كان قليل الكلام خارج أطر التصاميم الهندسية ، ولكن ذلك لم يمنع زميلاتي في العمل من اتباع مختلف المكائد النسائية لمعرفة بعض التفاصيل عن حياته الشخصية ، إلا أن ملامح وجهه أمام ذلك الاهتمام النسائي لم تكن تظهر أية انفعالات بنشوة ذكورية ، تماما كملامح وجه الدمية التي لا تتغير مهما حاولنا مداعبتها .

لقد كانت نيران الرغبة في داخلي تتأجج في الارتباط بذلك الشخص ، ولكن كيف سأخبره بذلك ؟ إن الأدوار في مسرحية الحب لا يمكن أن تتغير ، فأنا المرأة وهو الرجل ، فكيف أتقمص دوره وأبادر بالخطوة الأولى في البوح ؟ كلا فلقد حاولت أن أرسل إليه العديد من الرسائل الغرامية في نظرات عيوني وأعتقد أن ذكائه لم يخنه في إدراك ذلك ، و إن عدم قيامه بأية خطوة إيجابية إنما هو دليل على عدم اكتراثه ، لن أفكر به بعد الآن ، وسأتخذ قرارا لارجعة فيه ، نعم سأتجاهل وجوده .

وبينما كنت أعيش في خضم هذا الصراع مع ذاتي في تجاهل انجذابي نحو (( هيثم )) ، كان زميلي المهندس (( فراس )) يدعوني لحديث خاص ، وفي الواقع فإنني لم أتفاجأ كثيرا من دعوة (( فراس )) ، ذلك الشاب المتوسط القامة ، ذو العينين الزرقاوتين الواسعتين ، والشفتين الغليظتين اللتين لا تنطبقين من كثرة ثرثرته وكلامه السخيف ، ومع أن زميلاتي في المكتب كانوا معجبين بخفة ظل (( فراس )) وتعليقاته اللاذعة التي تفجر الدموع في عيونهن من كثرة الضحك ، ولكنني لست أدري لماذا كنت كلما أنظر إليه أتخيل صورة المهرج في السيرك والذي يبذل مجهودا خارقا لإضحاك الجمهور من حوله وخصوصا الأطفال ، وبالفعل فلقد كان (( فراس )) ذلك المهرج وكانت زميلاتي أشبه بجمهور الأطفال في السيرك .

ماذا عساي أن أفعل ؟ هل ألبي دعوة (( فراس )) ؟ لقد كنت في حيرة شديدة من أمري ولكنني عقدت العزم على القبول ، على الرغم من عدم إنجذابي إليه إطلاقا ، ولكن ما الذي دفعني إلى ذلك ؟

هل هي رغبة عارمة في الفضول للغوص في أعماق ذلك الشخص واكتشاف مكنونات نفسه الخفيه التي قد تختلف عن انطباعاتي الأولية التي كونتها عنه ؟

أم هي محاولة للإنتقام من (( هيثم )) وإحراق قلبه بنيران الندم على تجاهله وعدم اكتراثه ؟

بدأت لقاءاتي مع (( فراس )) تتجدد الواحدة تلو الأخرى ، وبالفعل وجدت فيه الكثير من الصفات الحميدة التي لم أكن أتوقعها ، ولربما كان من أهم الأسباب التي جعلتني أقرر الارتباط به ، هو ذلك الحب الكبير الذي كنت أقرأ رسائله وخطاباته في كل نظرة من نظرات عيونه ومع كل حركة من حركات جوارحه وكأنها تكاد تنطق كلسانه تماما لتقول لي : (( كم أحبك )) ، وإنني أمام كل تلك المشاعر كنت أتذكر مقولة والدتي : (( تزوجي بمن يحبك ولا تتزوجي بمن تحبين )) ، ولقد كانت حجتها دوما في ذلك ، أن الرجل يفرط في دلال المرأة التي يلهث قلبه في اللحاق بها ولايكون كذلك أمام المرأة التي يفضح الحب ضعفها وانكسارها في استجداء محبته .

اليوم هو الثلاثاء ، إنه الموعد الذي انتظره (( فراس )) طويلا ، وحاولت أنا الهروب منه كثيرا ، أنه يوم عيد ميلادي الذي يتزامن مع قراري في تحديد موعد خطبتي على (( فراس )) ، كنت أشعر بضيق شديد في نفسي ، متعبة ومجهدة ، وأطرافي لا أتمكن من تحريكها وكأنها أصيبت بالشلل ، كنت بالكاد ألتقط أنفاسي والعرق يتصبب من وجهي ، وشعرت بحالة مريعة من الغثيان وبرغبة في التقيؤ ، وما كان رأسي في وضع أفضل ، فلقد لازمتني آلام صداع مخيف وشعرت وكأن هنالك شخص يجلس فوق رأسي يضربه بإزميل من حديد في كافة الاتجاهات ، كنت أتمنى الموت في تلك اللحظات ، ولكن مشهد تلك الآلام انقلب رأسا على عقب في ثوان معدودات ، بعد أن امتدت نحوي يد سمراء بمنديل ، رفعت رأسي ، ونظرت لا أصدق عيوني ، إنه (( هيثم )) .

- ماذا بك يا ميس ؟ تبدين متعبه .

- لا ... لا ... أنا بخير .... أشكرك على سؤالك .

- ميس لقد كنت أنتظر هذا اليوم لأتحدث معك بعد العمل في مكان ما ... فهل تقبلين دعوتي ؟

- ولكن ماذا تريد مني يا هيثم ؟

- ليس الآن ... وليس هنا .... لابد أن نكون بمفردنا .

- حسنا سأراك في (( سيتي مول )) عند الساعة السادسة .

يا آلهي ماذا فعلت ؟ كيف قبلت دعوة هيثم وأنا مرتبطة بموعد مصيري مع (( فراس )) عند الساعة السابعة في (( مكه مول )) ؟

كانت الأفكار تتلاطم في رأسي كأمواج البحار المتتابعة نحو الشاطىء ، أما مشاعري فكانت مختلطة مابين فرح وفضول وترقب ، ومابين خوف وحزن وخيبة رجاء ، تماما كما في كوب عصير من الفواكه السكرية الطعم والتي امتزجت مع فواكه أخرى بمذاق حامض .

ولكنني سأتخذ قراري بالموافقة على طلب (( هيثم )) بالارتباط وبدون أدنى تردد في حال مصارحته لي بذلك ، وسأذهب بعدها للقاء (( فراس )) وانسحب من حياته بكل ود وهدوء ، أما إذا كان (( هيثم )) غير جاد في رغبته بالارتباط وكان يبحث عن تزجية وقت فراغ رغبته كيفما اتفق ، فسأرحل مسرعة إلى لقاء (( فراس )) وسأوافق على طلبه بالزواج مني وبشكل قطعي ، وبالفعل ذهبت إلى اللقاء الأول وأنا في قمة سعادتي تماما كالطير الذي خرج من قفصه للتو ليحلق عاليا في سماء السعادة التي كان يبحث عنها دائما ولكنني كنت أيضا أشعر بالخوف من التحليق في تلك السماء فأصادف نسرا جائعا يلتهمني بدون رحمه ، تماما كما يحدث مع العصفور الذي يعود من فرط خوفه إلى القفص مجددا .

تبددت كل مخاوفي بعد رؤية (( هيثم )) ، لقد كان أنيقا كعادته ، رائعا في مظهره وهيبته ، إنه الرجل الذي لم أتمنى له بديلا في حياتي ، تبادلنا سلاما مثيرا تعانقت فيه أكفنا بحرارة تكاد تصل إلى درجة الغليان ، وجلسنا نحدق ببعضنا وكأننا نلتقي للمرة الأولى ، لم نتمكن من الكلام ، فعيوننا تحدثت و أسهبت في وصف نبضات قلوبنا التي كانت تعزف مقطوعة عنوانها لقاء حبنا الجميل الذي طال انتظاره .

وفجأة سمعت صوت صراخ من بعيد ووقع خطوات تجري بسرعة هائلة كصوت حوافر الخيول في مضمار السباق عندما تخترق مسامع المشجعين المتواجدين بالقرب من نقطة النهاية ، فالتفت مذعورة خلفي لأجد (( فراس )) في هيئة لم أشاهدها عليه من قبل ، فبشرة وجهه البيضاء قد أصبحت شديدة الإحمرار ولكن ليس بفعل نوبة خجله المعتاد أمامي بل بسبب عاصفة غضب هوجاء غير مسبوقة ، وعيونه لم تكن تتحرك في مدارها مضطربة كما في كل لقاء تتقاطع فيه عيوننا بل كانت تقدح شرارا كعيون قطة توحشت ولم تعد تهاب شيئا .

رمى (( فراس )) الهدية التي كان قد حضر خصيصا إلى (( سيتي مول )) لشرائها لي ، وأمسك بالمقعد الخشبي الذي كان بجواري بلمح البصر ، وبدأ يضرب به رأسي كالمجنون ، أما (( هيثم )) فلقد كان أسيرا بين جنود (( فراس )) الذين حضروا معه لشراء الهدية ، ولم أدري ماذا حدث بعد ذلك ، لأنني عندما استيقظت لم أشاهد إلا الظلام ، وأدركت حينها أنني كفيفة البصر الآن ولكنني لن أكون كفيفة البصيرة بعد الآن ، فمشاعر الأشخاص الذين لانبادلهم الحب ليست كدمية تشتريها لنا الأيام وتقنعنا بجمالها فنزجي وقتنا باللعب فيها و من ثم نلقي بها دون شفقة في سلة المهملات عندما نقتني الدمية التي كنا نحلم بها دوما .

Followers

Pageviews Last 7 Days