رفعت راسنا ؟

أرق ... أرق ... أرق ...

مابين الدقيقة والدقيقة ، تهب زفرات تأففه التي تدفع به على السرير ذات اليمين وذات الشمال ، ثم لايلبث أن ينظر إلى ساعته ، ليجد عقاربها تحبو في حركتها كالطفل الخائف من تعلم المشي بمفرده ، فيتأفف مجددا وينهض من فراشه ، ليبدأ السير في غرفته جيأة وذهابا ويداه متشابكتان خلف ظهره ، والعرق يتصبب من جسده ، وصوت أنفاسه تتسارع كلما بدأ قلقه يعدو في مضمار عقله أكثر ، أما نبضات قلبه فغدت تشبه الإيقاع السريع الذي تقرع به قبائل آكلي لحوم البشر طبولها قبل هنيهات من ذبح وليمتها .

يقترب من زوجته التي تغط في سبات لايشوب سكونه وهدوء حركته إلا سمفونية الشخير المزعجة التي تنطلق مع كل شهقة من شهقاتها ، فيغبطها على هدوء أعصابها وراحة بالها ، فكيف لها أن تدرك خطورة ذلك الأمر الذي لايعاني منه إلا الرجال ، بل إن نجاح الرجل أو فشله في تلك اللحظة المصيرية قد تتوقف عليها حياته بأكملها ، فعلا كم هو امتحان صعب .

((ما العمل ؟ الساعة لا تزال الثالثة صباحا ، إنني قلق جدا ، بل إن رأسي يكاد ينفجر من كثرة التفكير في هذا الموضوع )) ، صدى صوت هذه الكلمات كان كأجراس ساعة المنبه المزعجة ، التي أيقظت زوجته مذعورة من سباتها العميق ، لتنظر إليه بعينين شبه مغمضتين ، وتخاطبه بصوت يشوش نقاء موجته ذبذبات بحة مزعجة أصابتها من كثرة الصياح في تلك الليلة : (( ماذا دهاك أيها الرجل ؟ لماذا لاتزال مستيقظا ؟ ألا تشعر بالتعب بعد عناء هذا اليوم الطويل ؟ )) .

- (( اصمتي يا امرأه ، فأنت لاتعلمين مدى أهمية هذه الأمور في حياة الرجال )) .

- (( ولكني لا أجد تبريرا لإفراطك في القلق إلى هذا الحد ؟ أهي مسألة حياة أو موت ؟ )) .

- (( بالطبع يا امرأه ، أتريدين أن يسخر منا الجميع ؟ كيف سننظر في وجوههم إذا فشلنا ؟ )) .

- (( أنت لاتدركين أن نجاحنا في هذا الأمر هو فخرنا وعزنا وأمجادنا ولايهمنا من بعده أي نجاح )) .

- (( إذن أنت تعترف أن فشلك في حسن معاشرتي لا يهمك )) .

- (( بل وإنني أفهم من كلامك أن فشلك في عملك أيضا لايعنيك )) .

- (( ومشاكلك التي لا حصر لها مع الجيران والأقارب والأصدقاء هي أيضا لا تكترث لها ؟ )) .

- (( أنا لست الآن في مزاج جيد لمناقشتك والخوض في غمار ملاحظاتك التافهة تلك ، أتفهمين ؟ )) .

تنسحب من تلك المبارزة الكلامية التي قد تودي بحياتها ، لتتحصن خلف متراس شخيرها مجددا ، أما هو فعاد لممارسة طقوس قلقه اللااعتيادية على وهج شموع الصبر التي ينحسر نورها سريعا كلما تأمل ظلام السماء الحالك .

كيف يتخلص من لعنة ذلك الانتظار ؟

خيوط ذلك التساؤل لم تكتمل في رأسه ، إذ افترس صوت دراجة نارية فراغ ليلته المشؤومة تلك ، فتنفس الصعداء ، فذلك موزع الصحف قد جاء ، فخرج مسرعا ليأخذ الصحيفة ويبدأ بالتهام أخبارها وعنوانيها ليزجي الوقت الذي يمتنع عن ملاقاة الصباح .

وثبت عيونه مبتعدة عن بعض العناوين التي تبدأ بإحدى التاءات الثلاث : (( تطوير ، تقدم ، تنمية )) ، وتوقفت عيونه مطولا عند العناوين التي تبدأ بكلمات ثلاث : (( جريمة ، فقر ، جهل )) .

وأشرقت الشمس أخيرا ، ليقفز باتجاه الهاتف ، ولكن توتره الشديد تسرب إلى أصابع يده التي ما فتئت الارتعاش أثناء الضغط على خانات الأرقام ، مما جعله يخطىء وجهة الاتصال عدة مرات ، وبعد انقضاء حزمة من المحاولات الفاشلة ، تمكن أخيرا من إصابة الخط الصحيح ، ولكن الرنين لم يقطعه سوى الرنين ، ليتابع المحاولة دون كلل ولا ملل ، وهاهو في النهاية صوت ولده الذي بالكاد كان يسمعه قد لبى النداء .

- (( ألو ، أسعد الله صباحك يا عريس ، كيف سارت الأمور ؟ " رفعت راسنا ؟ " )) .

- (( بالطبع يا والدي ، أنا رجل ومن صلب رجل )) .

- (( أحسنت .... أحسنت )) .

- (( بالمناسبة لا تنسى أن تحضر ملاءة السرير حتى نضعها في الصندوق الخاص بشرف العائلة )) .

يضع سماعة الهاتف ، يصعد إلى غرفة النوم ، يبدأ بعزف سمفونية الشخير الخاصة به ، وهو يهذي في منامه قائلا : (( ولدي رجل ... ولدي رجل ... ولدي رجل )) .

Followers

Pageviews Last 7 Days