فتاة الملح وفتاة السكر

(( يبحث الرجال عن فتاة تتمكن وبكل براعة من وضع مكعبات السكر في كل ما يقولون ، ويبتعدون عن الفتاة التي تنثر حبيبات الملح مع كل رأي فيه لا يتفقون ))

كلما بادرته بالسؤال عن الموعد الذي سيتقدم فيه لخطبتها ، تصدم بجدران صمته وأعذاره الكاذبة ، فهي تعتقد أن السبب الجوهري في تأجيل مشروع الارتباط بينهما هو تواضع جوانب حياته المادية ، ولكن الحقيقة كانت بخلاف ذلك تماما ، فهو وعلى الرغم من سعادته بخضوعها المطلق له ، وعدم معارضتها لأقواله وأفعاله التي كانت في بعض الأحيان تبتعد جدا عن درب الصواب ، إلا أن ذلك كان ينذر باقتراب الموعد الذي ستقرع فيه أجراس النهاية المؤكدة لتأجج نيران رغباته الجامحة في الإرتباط بها .

هو يريدها أن تكون قوية كاللبؤة تفترس كلامه بالنقد اللاذع عند كل خطأ ، بل وتمزق بمخالبها أفكاره المتمردة على نظام المنطق والعقلانية والواقع ، ولكنها لم تكن أكثر من هرة صغيرة تقفز بكل براءة بين أحضان كلماته ولاترفض مداعبات أكاذيبه وادعاءاته المبالغ في دقة صحتها بل تثني عليها دائما وبكل سعادة .

قرر أن يمنحها الفرصة الأخيرة قبل أن ينسحب من حياتها نهائيا ، فأعد لها فخا كلاميا لاينقصه المكر والدهاء ، وذلك ليستفز كلماتها المؤيدة له دائما ويجعلها من أكبر معارضيه ، فقال لها : (( طيور الشؤم كانت تحوم حول رأسي منذ صبيحة هذا اليوم ، فاستيقظت متأخرا عن موعد عملي ولكن المدير وبعد حضوري لم يتفوه بكلمة واحدة وذلك بعد أن رمقته بنظرة غاضبة )) ، وقبل أن يكمل حديثه تقاطعه بابتسامة رقيقة ، وتقول : (( بالطبع لن يستطيع الكلام فمن يجرؤ على مواجهة نظرات عيونك القوية التي يهابها أقوى الرجال ويذوب من حلاوتها أجمل النساء )) .

ينظر إليها وقد بدأ الغضب يتملكه ولكنه يكمل حديثه على أمل أن تعارضه في بقية كلامه ، فيستطرد قائلا : (( وبعد انتهاء موعد العمل خرجت مسرعا لأتمكن من اللحاق بموعد مباراة كرة المضرب المرتقبة بين البطل الإسباني ( رافئيل نادال ) وغريمه التقليدي البطل السويسري ( روجر فديرير ) فتجاوزت الإشارة الضوئية الحمراء لأصطدم بسيارة كانت قد همت بالانطلاق من الجهة المقابلة بمجرد هبوط الضوء الأحمر إلى الضوء البرتقالي )) ومجددا تقاطعه ولكن بتعابير غاضبة اجتاحت ملامح وجهها ، لتقول : (( فعلا كم هو شخص غبي ، فلقد كان يتوجب عليه انتظار الضوء الأخضر قبل الإنطلاق والتأكد من انقطاع سيل السيارات القادمة من الجانب الآخر للطريق ، كيف يتم منح رخص قيادة المركبات لأمثال هؤلاء ؟ صدقا أستغرب وجدا ! )) .

ضبط أعصابه كما يضبط الميقاتي عقارب الساعات التي فقدت مسار خانات التوقيت الصحيح ، واردف قائلا : (( عند عودتي للمنزل ومشاهدتي لمباراة كرة المضرب قررت الاستحمام قبل الحضور لموعدنا ، ولكنني فوجئت بجفاف صنابير المياه ، فاستغفرت ربي وسألته الصبر وتعجيل فرجه علينا بتفجير ينابيع مياه من جوف الأرض لعل المياه تزور بيوتنا في كل يوم وليس في كل أسبوع ، ولذلك استميحك عذرا على رائحة العرق التي تعطرت بها ، فلقد قضيت تحت لهيب الشمس وقتا طويلا وأنا أنتظر قدوم الشرطة لمكان الحادث )) وبسرعة فاقت البرق تقول : (( مطلقا فرائحتك كالمسك والعنبر )) .

وهنا كان قراره النهائي بالابتعاد عنها ، فثار في وجهها وبدون أية مقدمات قائلا : (( ألا تعارضين ؟ ألا تجادلين ؟ ألا تنتقدين أي كلمة من كلامي ؟ )) فتقول له وملامح الاضطراب لم تعرف طريقا لتعابير وجهها التي أصرت على التماسك : (( أنا سكر حياتك )) ، فيصرخ في وجهها قائلا : (( كرهت هذا السكر وأخشى على نفسي من الإصابة بداء السكري )) .

بعد ذلك قرر أن يوافق على طلب والدته ويتقدم لخطبة إحدى الفتيات بطريقة تقليدية ، وفعلا تم ذلك بعد فترة قصيرة جدا ، ولكن في اليوم التالي لخطبتهما كانت المفاجأة التي بدت سارة في بدايتها وأصبحت جحيما لايطاق فيما بعد ، فبينما كانت جلستهما تحمل في ظاهرها بشائر سعادته القادمة ، دار بينهما نقاش طويل مالبث أن تعمقت جذور حديته في نبرات أصواتهما التي انتقلت من مرحلة الهمس إلى مرحلة الصراخ .

موضوع النقاش كان حول أعداد المدعوين لحفلة الخطبة من أهلها وأهله ، فهو يصر على أن عدد أهلها كان أكثر وهي تؤكد عكس ذلك ، وكلما حاول أحدهما تغيير مجرى الحديث معللا بأن هذه الأيام هي الأجمل ولابد من عدم إضاعتها في نقاشات أفلاطونيه ، يرفض الطرف الآخر الانصياع لهذا الاقتراح ويشعل فتيل النقاش مجددا .

لم تكن تلك الحادثة عرضية أبدا لأنها أصبحت نهج أيامهما اللاحقه ، فإذا قال لها أن الطقس اليوم حار ، تقول له فورا بأنه ليس كذلك ، وإذا اقترح عليها الذهاب إلى مكان ما ، تقترح عليه الذهاب إلى مكان آخر ، لدرجة أنها كانت تجادل وتعارض حقائق لايختلف في الاتفاق عليها اثنين .

وفي أحد الأيام وبينما كان يزورها للإطمئنان على صحتها بعد إجرائها لعملية جراحية بسيطة ، أحضر معه باقة من ورد التوليب ، وبمجرد دخوله ابتسمت قائلة : (( ما أجمل ورود الأوركيد التي أحضرتها )) فتنفجر براكين الغضب فيه بطريقة غير مسبوقة ويصرخ في وجهها قائلا : (( إنها توليب وليست أوركيد )) ، فترد عليه بنبرة صراخ لاتقل في شدتها وغلاظتها لتؤكد كلامها : (( بل أوركيد )) .

- توليب
- أوركيد
- توليب
- أوركيد

ليوقف تلك الاسطوانة التي تسمرت عند ذلك المقطع قائلا : (( ألا تتوقفين عن معارضتي ومجادلتي حتى وأنت مريضه ؟ )) ، فتجيبه : (( أنا ملح حياتك )) ، فيقول : (( كرهت هذا الملح وأخشى على نفسي من الإصابة بمرض الضغط )) .

ثم يرفع كلتا يديه عاليا ويخرج من المستشفى وهو يهتف بأعلى صوته : (( فليحيا السكر ... فليحيا السكر )) .

Followers

Pageviews Last 7 Days