أنا وأبو بدر

لا أدري لماذا تمثل أمامي في الأمس طيف (( أبو بدر )) وهو يقف مذعورا أمام صراخ زوجته (( فوزيه )) في مسلسل باب الحاره ؟ هل السبب في ذلك هو أنني تبادلت الأدوار مع زوجتي لبضع ساعات قضتها لدى (( الكوافيره )) وقضيتها أنا بصحبة الأولاد ؟

هل حقا هذه الساعات القليلة كانت كفيلة بقلب كل الموازين بهذه السرعة المذهلة ؟

قبل محاولة الإجابة على هذه التساؤلات أعدت شريط تفاصيل الأحداث في ذلك اليوم والتي بدأت عندما كنت أجلس أنا والأولاد على مأدبة الإفطار بينما هي تستعد للخروج ، صدى خطوات سريعة تتجه نحو الباب وفجأة ضربة هائلة بكف يدها على باب المطبخ ، فقفزنا أنا و (( عمر )) و (( ياسمين )) من فوق مقاعدنا والتفتت عيوننا بسرعة البرق إليها لنستمع إلى وصاياها أو بمعنى أصح أحكامها العرفية التي سيكون عقابها المقصلة حتما إذا مالم نتقيد بها ، فرمقتني أنا والأولاد بنظرة نارية ورفعت يدها اليمنى ، فاعتقدت لوهلة أنها ستصفعنا ، تماما كما يحدث في بعض الأنظمة الدكتاتورية التي ليس للمرء فيها من حرية للتفكير أو الاختيار ، ولكنها لم تكن حازمة إلى ذلك الحد بل اكتفت بتحريك سبابتها سريعا كحركة سكين بدأت تقطع للتو شرائح لحم قاسيه ، لتنطلق الأوامر والأحكام والتوجيهات واحدة تلو الأخرى : (( لا أريد حدوث أية فوضى في المنزل ، عندما أعود أريد أن أرى المنزل نظيفا كما تركته ، ولاتنسى إرضاع عمر وتبديل حفاضته كلما اتسخت ، وبالتأكيد فلن أذكرك بالإشراف على واجبات ياسمين المدرسية ، و ..... و ..... و ..... و )) ، ولاتزال مع كل أمر تحرك سباباتها النحيلة المشابهة لعنقود فاصولياء خضراء وعيوننا تلهث وراءها من أعلى إلى أسفل ومن أسفل إلى أعلى كمحاولة للتأكيد لها على مدى التزامنا وحسن اصغائنا لكل كلمة تصدر منها متلازمة مع حركة تلك السبابة ، لدرجة أنني بدأت أتخيل أن السبابة هي من يتكلم ويصدر تلك الأحكام .

وبرسالة اطمئنان شفوية نطقنا بها بصوت واحد كرد على كل تلك الأوامر : (( حاضر )) ، خرجت من المنزل وهي لاتزال تتمتم بأننا لن نحسن التصرف وستعود لترى المنزل في حالة مزريه ، وبمجرد ابتلاع كل طابق من طوابق العمارة التي نسكنها لصدى صوت أقدامها التي كانت تهبط بخطوات عسكرية منتظمة عند كل ملامسة لكعب حذائها مع سلسلة الدرجات السبعة والستين التي تفصل منزلنا عن الأرض ، محدثة صوتا بايقاع لم يتغير (( طيق ... طاق ... طيق ... طاق )) ولا أعرف لماذا وأنا أسمع ذلك الصوت عادت بي الذاكرة إلى أيام المدرسة وتحديدا الطابور الصباحي الذي لم أكن أتقيد بمواعيده إلا ببضع مناسبات ، عندما كان أستاذ الرياضة يصرخ بكل جدية وحزم وهو يقول : (( استرح ... استعد )) وصدقا لغاية الآن لم أتمكن من استيعاب الهدف من تلك الحركات التي كنا نضرب بها الأرض ونثير من خلالها غبار ساحة المدرسة التي قلما كنت أشاهدها نظيفه ، هل هذه الحركات كانت تؤكد مدى كفاءة مؤسساتنا التربوية في إعداد أجيال منضبطة تحترم النظام في كافة شؤون حياتها ؟ أم هي كانت وبكل أسف مجرد حركات بهلوانية نستعرض من خلالها أننا أفضل من يقوم بدور المهرج في سيرك الحياة ؟

ثلاثة أرباع الساعة كانت الوقت اللازم للأولاد ليجعلوا معالم المنزل تنقلب رأسا على عقب ، ولأن أطرافي تصاب بالشلل دائما أمام أولادي فلا أملك الشجاعة على ضرب أي منهما وأكتفي بالصراخ الذي لا يردعهم أبدا عن التحول السريع لجنيين شريرين بمجرد استفرادهما بي ، بعكس الدور الملائكي البريء الذي يتقنانه ببراعة أمام والدتهما ، مما جعلني دوما عرضة للإنتقاد من زوجتي بأن الأولاد لايهابونني ولايتعاملون معي كأب بل يعتبرونني دائما صديقهم وقريبا من عمرهم ، لدرجة أن ابنتي ياسمين التي أكملت عامها السادس تناديني بإسمي مجردا من كل ألقاب ، وأنا في الواقع لاتنقصني الغلاظة والشدة والقوة إذا أردت استعمالها في أي أمر من أموري ولكنني وطوال حياتي كان مبدأي الوحيد الذي تمكنت من الحفاظ عليه لغاية هذا اليوم (( أن لا أتجبر أو اعتدي على أي شخص أعلم أنه لايوازيني في القوة حتى ولو أخطأ في حقي )) .

مما لاشك فيه أنني كنت أقف أمام مسؤولية مزدوجة في ذلك اليوم ، فأنا الأب و الأم في الوقت ذاته ، ولكنني لم أتمكن مسبقا من تقمص صورة الأب العربي الشديد ذي الشاربين الغليظين الذي بمجرد أن يسمع الأولاد خطى أقدامه وراء الباب حتى تبدأ حالة الاستنفار لديهم والهروب إلى غرفهم من كثرة الخوف والرعب ، أنا أكره تلك الصورة بل وأثور عليها وأرفض أن أتعامل مع أولادي بتلك الطريقة ، ولكن أعتقد أيضا أنني أفرطت من الجانب المقابل وجعلت الأولاد يعتقدون أنني صديقهم وليس والدهم ، ومع كل هذا الصراع في الدور الأبوي لي في هذه الحياة فلقد وجدت نفسي مطالبا بذلك اليوم بأن أتقن دور الأم لبضع ساعات وأحافظ على النظام في المنزل والذي كانت زوجتي تتقنه ببراعة مطلقة ، ولكن ما العمل ؟ فلقد شعرت أنني فقدت السيطرة الكلية على مجريات الأحداث وهما ينتقلان من غرفة إلى أخرى ويعبثون بكل مايصادفونه في طريقهم وأنا أركض وراءهم أحاول إنقاذ مايمكن إنقاذه من ملامح المنزل الذي كان عليه قبل خروج زوجتي ، ولكن وبكل أسف وعلى رأي كوكب الشرق أم كلثوم : (( فات الميعاد )) وأصبحت صورة المنزل عما كانت عليه بعيدة كل (( البعاد )) .

قررت الاستعانة بصديق ، أعلم أنه مشترك بأحد النوادي الراقية في أحياء عمان الغربية والذي كان يرجوني دائما على أن أحضر الأولاد وأذهب معه لقضاء بعض الوقت هناك ، ولا أنكر أنني كنت دائما أفضل التهرب من دخول ذلك المكان لأنني بصراحة لا أود أن أجعل أولادي يختلطون بمشاهدة تلك الطبقة من المجتمع ، حتى لاتبدأ لديهم ومنذ هذا العمر المبكر عمليات المقارنة التي أرهقت تفكيري على الدوام ، وإنني وبكل أمانة لا أحسد تلك الطبقات الفاحشة الثروة ولكن كنت دائما أسأل نفسي لماذا تتعدد وسائل ترفيه أطفال تلك الطبقة وتتنوع بينما لايجد أطفال الطبقات الأخرى سوى الشارع والحارات وبعض الحدائق العامة التي لا تتناسب أعدادها أصلا مع حجم أعداد الأطفال ، مما كان يضطرني دوما للوقوف أمام طابور طويل حتى أتمكن من وضع إبني أو ابنتي على (( المرجيحه )) بعد عراك طويل مع أهالي الأولاد الذين يرفضون ترك (( المرجيحه )) إلا بعد أن تكون أرواح الأطفال الذين ينتظرون دورهم قد شارفت على الصعود إلى بارئها من كثرة البكاء ، أليس من حق كل الأطفال في هذا المجتمع أن تتوفر لهم وسائل ترفيه بتكاليف معقولة تكون بمتناول الجميع ؟

ذهبت مع صديقي وبمجرد وصولنا إلى منطقة الألعاب وجدت أعدادا هائلة حقا من الأطفال ولكن لا توازي الاعداد الهائلة التي تتواجد في الحدائق العامة التي لايتجاوز عددها أصابع كف يدي الخمسة ، ولكن المظهر المخيف الذي كان ينتظرني هناك ، هو أنني وجدت نفسي محاطا بأعداد هائلة من فتيات الفلبين لدرجة أنني تخيلت نفسي في العاصمة الفلبينية (( مانيلا )) فسألت صديقي : (( أين أهالي هؤلاء الأولاد )) ، فابتسم صديقي وقال لي : (( يا عزيزي أنت هنا بين أطفال الطبقة الأغنى في المجتمع فهل تعتقد أن ( برستيج ) الأهالي سيسمح لهم أن يعفروا أنفسهم بالتراب مع أولادهم ويلاحقونهم كما تفعل أنت أيها المسكين )) ، فقلت له : (( إذن فهؤلاء الفلبينيات في الواقع هن الأمهات فكما يقولون الأم هي من تربي وليس من تلد )) ، فقال لي : (( أتفق معك فلقد ذكر لي أحد الأصدقاء قصة رحيل خادمتهم الفلبينية وكيف أن ولده لم يتوقف عن البكاء لرحيلها مما جعل الأب يتصل معها على الفلبين ويرجوها للعودة وبأي راتب تطلبه )) ، فضحكت حينها وقلت في سري : (( من الذي لايزال يفاخر بالعروبة ونشأة هذه الاجيال من صنع الفلبين وأندونيسيا )) .

عدت إلى المنزل ورأسي بالكاد يحملني من كثرة المشاهدات التي التصقت في ذاكرتي من ذلك النادي وبدأت صراعات الأفكار التي لاتنتهي ولكن قررت أن أعقد هدنة سريعة مع تلك الصراعات وأبدأ بترتيب المنزل قبل عودة زوجتي ولكن قبل ذلك صدرت أوامري الصارمة للأولاد بالاستحمام ، فتقمصت حينها دور صبية حمام (( أبو قاسم )) في فنون (( التكييس والتلييف )) حتى أصبحت أضواء الحمام تتلألأ على أجسادهم الصغيرة التي بدأ لونها يميل إلى الإحمرار وبمجرد خروجهم من الحمام وارتداء ثيابهم التي واجهت صعوبة في إيجاد أماكنها حتى غرق الأولاد في سبات عميق ، فلعبت دور (( أبو بدر )) مجددا ورتبت المنزل بسرعة البرق وجلست بجانب الأولاد ، وبينما كنت أتأمل وجوههم التي استعادت ملائكيتها ، شعرت بسعادة كبيرة لأنني لم أسلم عجينة نشأة أولادي لغرباء يشكلونها بعيدا عن ديني وأخلاقي وقيمي ومعتقداتي في هذه الحياة ، وبدخول زوجتي إلى المنزل انتهى دور (( أبو بدر )) بعدما شاهدت المنزل بحال أفضل مما تركته عليه والأولاد نائمون كالشمس والقمر في التقاء غير مسبوق في سماء سرير واحد ، فابتسمت زوجتي وتخلت هي أيضا عن دور (( فوزيه )) وانتهى ذلك اليوم بسلام .

Followers

Pageviews Last 7 Days