نور


في منتصف الشهر الأخير من عام 2009 ، وبدعم ومساندة وتشجيع من صديق العمر النادر ( نادر أحمد ) الذي لا تزال قصة صداقتنا تكتب في كل يوم سطورها الخالدة ، بدأت رحلتي في عالم التدوين ، وكم كنت حينها خائفا من الخوض في غمار هذه التجربة ، ليس بسبب خوفي من الدروب المجهولة التي كنت على وشك المسير فيها ، بل لأنني كنت الرجل الصامت دوما أمام كل الأحداث التي مضت في حياتي كفيلم سينمائي كانت مشاهداته في عجلة من أمرها لحظة العرض .

عندما كتبت إدراجي الأول عن علاقة الأخ بأخته ، والذي تصادف يوم كتابته بذكرى مصرع شقيقتي الذي شهدت تفاصيله وأنا لم أكن حينها قد تجاوزت عامي الثالث ، بكيت ملء قلبي وراودني إحساس غريب ما شعرت به من قبل ذلك قط ، فكم كنت أتمنى في تلك اللحظات لو أنها كانت لا تزال على قيد الحياة ، أقسم أنني كنت لن أتردد في تقبيل الأرض تحت موطىء قدميها ، ولكنها رحلت قبل أن تكمل منتصف العقد الثاني من مشوارها القصير في هذه الحياة ، وعلى الرغم من مضي كل هذه السنين ، إلا أنني في كل ليلة أعتذر لها عن صغر سني الذي لم يمكني من مجرد محاولة إنقاذها وهي تختنق في الحمام من انبعاث سموم السخان ، ولذلك كتبت لها مرة أخرى بعد عشر شهور لعلي أجد لي مناصا بين الحروف والكلمات ، فلم أجد قلمي يبدأ إلا بعبارة واحدة (( عذرا يا أختاه )) .

وفي خضم الحالة النفسية السيئة التي أشعلها قلم الذكريات ، حضر أول زائر لمدونتي ، أو بمعنى أصح أول زائرة ، إنها من أطلقت عليها لقب (( نوارة المدونة )) ، إنها نور ما بعده نور ، ففي ذلك اليوم تحديدا وأنا ارتجف من برد أحزاني ، جاء تعليقها كوسادة دافئة غمرتني بالحنان واللطف ، واكتملت فرحتي بتشجيعها ومساندتها لي كي أكتب وأكتب ، فكانت المرأة التي حفزت قلمي للبوح بما يختلج صدري من كلام كنت قد ردمته بتراب اليأس بعد استهزاء وسخرية لجنة التحكيم من قلمي في سنتي الجامعية الأولى حين نظمت أول قصيدة شعر .

اليوم يا نور لابد من الاعتذار منك ، فهذا الإدراج كان يتوجب كتابته منذ أمد بعيد ، فوجودك إلى جانبي مع مرور كل هذه الأيام ، ووفاؤك لكتاباتي في زمن ضاع فيه الوفاء ، تضيق أمامه لغتي ولاتسعفها مفرداتها كي تعبر لك عن مكانتك عندي ، ولربما يكون أصدق القول ، أنك من جعلت لقلمي نبضا وروحا ، بل أنت من سهرت على تربيته وهو لايزال في المهد صبيا ، حتى بدأ ينضج ويشتد عوده ، ومع ذلك لم تفارقيه البتة ، وكأنه ولدك وأنت أمه .

أتذكرين يا نور سجالاتنا الفكرية ومناقشاتنا المطولة بعد كل إدراج ، كنت في كل يوم أتعلم منك درسا جديدا في تجارب الدنيا ومعارفها الحياتية ، وعلى الرغم من أنك أصغر مني بثلاثة أعوام ، ولكنك كنت دوما تبهرينني بثقافتك وسعة تجاربك ، وكأنك تكبرينني بثلاثين عام .

ومع أنك تقطنين في النصف الآخر من الكرة الأرضية إلا أن ذلك لم يقف حائلا لتكوني رفيقة مشواري الكتابي في السراء والضراء ، و كلماتك لم تتوانى عن رسم أجمل لوحات الوفاء عند نهاية كل تدوينة كنت أكتبها ، حتى مضت بنا فصول السنة وتعاقبت مناسباتها ، ونحن على حالنا ، قلم يكتب وحبر يسانده كي لا ينضب .

في النهاية لا يسعني إلا القول : (( أن الأشخاص الذين يحيطون بنا يشبهون الكتب ، فمنهم من يغريك مظهر تصميم غلافه و مقدمة حروفه المنمقة بعناية فائقة ، إلا أنه وبمجرد تقليبك لصفحات ذاك الكتاب ، تدرك كم كنت مخطئا في لهفتك على قراءته ، وهناك كتب تتوسطها عناوين عريضة ، تجذبك إليها كالمغناطيس ، ولكنك تندهش أن متوالية كلماتها بعد ذلك لا تمت لذلك العنوان بأية صلة ، وهناك كتب لا تسأم مرافقتها وتكرار قراءتها والتعلم منها والاحتفاظ بها في صدر مكتبتك حتى تجد نفسك وقد توحدت مع سطورها في أفكارك ومشاعرك وتصبح لك مرجعا في العديد من شؤون حياتك ، وأنت يا نور بالنسبة لي مثل ذلك الكتاب تماما )) .

Followers

Pageviews Last 7 Days