حبيبتي وتشرين

منذ ثلاثة عقود ، والأيام والشهور والسنين تمضي في حياتي دون أن أراعيها الكثير من الاهتمام ، وتعاقبت الفصول مرارا وتكرارا ، فلا جزعت لوداع أزهار الربيع ، ولا سئمت من رتابة شمس الصيف وقسوة حرارتها التي لا تلين ، وما أشفقت على شيخوخة أوراق الأشجار في الخريف ، وما ارتوى قلبي الظمآن عند مواجهة أمطار الشتاء ولا انبعثت فيه نبضات الحب من جديد .

ومع هذا فكم دونت من أحداث وتواريخ ، قصة حبيبتي الأولى ومن سار على خطاها في وأد أملي قبل بلوغه سن الرشد العاطفي ، أمنياتي وأحلامي المهدور دمها دوما بمقصلة الواقع ، جنوني وهذياني في حوارات النفس البيزنطية ، دموعي وأحزاني على كل لحظة يتجرد فيها البشر من الإنسانية ، هيبتي وإجلالي لكل روح أبية ، سخطي وغضبي على الغرور والنرجسية ، صبري وجلدي على تخبط رياح الدنيا بحالي ، يأسي وخنوعي في مجابهة من ظلمني ، ومناسبات أفراحي الشحيحة التي ضحكت فيها ملء قلبي .

لم أؤمن يوما بضرورة السير متعمدا لجحور تلدغني كي أتقن عبورها سالما في المرة الثانية ، ورفضت الانحناء برأس طائع لوالدتي وهي تجبرني على النوم بجانب شقيقي المريض بالحصبة ، فالتقط منه العدوى التي تشطب زيارتها لجسدي مستقبلا ، وكرهت المعلم الذي واظب على ضربي بحجة خوفه على مصلحتي ، وسخرت من تقريع كبار السن لسيرتي المتمردة على نصائحهم وتوجيهاتهم ، وكفرت بالمسلمات التي لا بد من الوقوف عندها قبل البدء بأية تجربة حياتية ، وأسقطت كل الأساطير والرموز كي لا أشق طريقا قد ضجر نفسه من كثرة خطى من مشى فيه من قبلي .

أنا لا أكره الحياة ومع هذا لست متلهفا عليها ، ولكنني سأمت من الحزن الذي حرصت على مرافقته طوال حياتي ، ولهذا هجرت من يصر على معاتبتي عند كل قول أو فعل ، ونبذت النساء وراء ظهري كلما اعتقدن أنهن يمتلكن قلبي بالدموع والجفاء ، وألقيت الملح بعيدا عن طاولة طعامي ، وأغلقت المذياع والتلفاز كلما تأهبت الآهات للوثب من حناجر الغناءين ، وأتلفت ثيابي السوداء ، ومزقت كل رواية قرأتها وبعثت في نفسي الكآبة والألم ، حتى أنني استأصلت من ذاكرتي كل اللحظات التي تسببت في تكدر مزاجي واضطرابه .

واليوم سقطت آخر أوراق أيلول لتترك أغصان شجرة هذا العام عارية من الفرح ، وهذا ما كنت دوما أعتقده قبل مجيئك إلى حياتي ، فلقد تواطئت الطبيعة في ذكرى يوم ميلادك ، وأزهرت أيام حياتي بالفرحة مجددا ، فأجيبيني واصدقي القول : ألهذا كانت تتغنى فيروز بأزهار تشرين ؟

ماذا سأهديك اليوم ؟ قصيدة لنزار أم أغنية لكاظم ؟ فذاك قالها والآخر غناها : (( كل عام وأنت حبيبتي )) ، ولكن لا يا حبيبتي ، فأنا أبحث اليوم عن كلام ماقيل بعد ، وعن جملة ماسبقني فيها عاشق قط ، ولكنني من فرط فرحتي بلقائك ، تناثرت كلماتي في معجم حبك وعجزت عن جمعها في تركيب لغوي متناسق ، وكأنني عدت طفلا يتعلم النطق من جديد .

كم أتمنى أن أراك اليوم وأنت ترتدين فستانك الأحمر ، واستأذن ( Chris De Burgh ) وأتغنى بك يا سيدة النساء على أنغام غربية المزاج ، خالية من الآهات ( Lady in red ) ، وعلى منصة أحلامنا وضوء القمر يرافقنا ، سأحتفل بك وأعلن أمام الكون بأسره ، أن في مثل هذا اليوم ولدت حبيبتي .

سأجيبك اليوم لماذا أنت من اختارك قلبي ، لأنك وبكل بساطة تختلفين عن كل الشخصيات التي سأمت تكرار تواجدها في مشوار حياتي ، هم جعلوني أبكي وأنت جعلتني أضحك ، هم اعتقدوا أنني سأتأثر بهم كلما زيفوا لي عمق شخصياتهم وتعقيدات تجاربهم ، ولكنهم غفلوا أن البساطة والعفوية شيفرة العشق السرية ، هم بنوا السدود والحواجز ، ظنا منهم أن معاناتي في الوصول إليهم ستجعلني أعد آلاف الخطوات قبل العزم على فراقهم ، أما أنت فكنت على العكس تماما ، مهدت أمامي أقصر السبل التي تصل بي إلى قلبك ، وغمرتني حبا وحنانا ، فهنيئا لي بذكرى ميلادك وهنيئا لقلبي بحبك وهنيئا لأيامي بتدوين سطور السعادة التي بدأت حروفها الأولى مع حلول تشرين .

Followers

Pageviews Last 7 Days