قلبي على ولدي أم على والدي أم على الحجر

(( ساعاتي )) ما أضاع وقته في ضبط أوقات الآخرين ، بل في (( تقطيع السمكة وذيلها )) فلقد كان على ذمته القانونية ثلاث نساء وعلى ذمته العشقية أضعاف ذلك .

كان إن جاز التعبير (( يتنفس النساء )) فما من ساحة أنثوية في مشارق الأرض ومغاربها إلا وكان له فيها صولات وجولات ، وعلى مايبدو أن عائلته كانت تحمل (( جينات وراثية )) تسببت في إحداث ذلك النهم المتواصل على حواء ، فجميع أشقائه لم يكتفوا بزواج واحد ، بل إن تعدد العشيقات في أوقاتهم الخارجة عن حسابات المنزل كانت مبدأهم الثابت .

أربعة ذكور وذات العدد من الإناث كان نصيبه في هذه الدنيا من الأبناء ، إلا أن قاعدته الأساسية في الحياة (( عيش يومك )) كانت مبررا كافيا لكي لايهتم كثيرا في تأمين مستقبل هؤلاء الأولاد والاكتفاء بالانفاق عليهم في المناسبات ، فهمومه انحصرت أيام تجارته المزدهرة في تأمين تكاليف رحلاته السنوية إلى (( أوروبا )) ربيعا وإلى (( الصين )) خريفا ، لكي يشبع احتياجاته اللامنتهية في عشق السفر الذي لم يكن السبب فيه (( غدر البشر )) بل ليحظى بمتعة المشاهدات من جمال الطبيعة و (( صبابا النساء )) واحتياجات فرعية من زيارات لمعارض (( الساعات )) .

بدأت زوجاته في الرحيل عن هذه الدنيا بجلطات الكيد والقهر والغيره ، ولم يبقى على ذمته سوى زوجة واحدة ، آثرت البقاء للإطمئنان على مستقبل أبنائها الذي كان معلقا بين الأرض والسماء .

كان ولدها الأصغر (( آخر العنقود )) في كل رحلة خريفية لوالده إلى أرض الصين ، يرجوه وبكل براءه أن يحمل سلامه لشقيقه (( طوكيو )) لتصرخ هي حينها وبأعلى صوتها قائلة : (( لقد أنطق الله تعالى ذلك الولد الصغير ليفتضح حقيقة أمر زواجك أيها الرجل في بلاد الصين )) .

ولكن العمر مضى دون أن يتوقف (( الساعاتي )) عن قناعاته الثابتة في هذه الحياة ، وما أن أعلنت جيوبه الإفلاس ولم يعد بإمكانه السفر إلى أي مكان ، أصبح عالة على بعض أبنائه الذين أجبرتهم سلوكيات والدهم في الماضي أن يكونوا (( عصاميين )) ليتمكنوا من بناء مستقبلهم ومستقبل أولادهم فيما بعد .

أصبح (( الساعاتي )) في أرذل العمر ولكن الشيخوخة لم تتمكن إلا من إصابة أقدامه - التي جابت الدنيا - بالهرم ، وانحصرت أوقاته في مشاهدة المسلسلات التركية التي يتذكر من خلالها الأماكن التي قضى فيها أجمل أيام شبابه وصباه .

كان لا يزجي وقته إلا بالحديث مع ابنه (( آخر العنقود )) الذي كان يذكره بأيامه الخوالي وحياته التي عاشها (( بالطول والعرض )) ، و كان يؤكد له أن القصور و السيارات الفارهة و مظاهر النعيم الزائلة لا تغريه ، فذكريات ماضيه الجميل تجعله من هذه الدنيا لا يريد المزيد .

ولكنه لم يتمكن من إخفاء مشاعر خوفه غير المسبوقة أمام ولده من أن تصاب زوجته الباقية بأي مكروه ، فمن الذي سيعينه في شيخوخته غير تلك المرأة الصابرة التي تربطه فيها عشرة ستحتفل قريبا بيوبيلها الذهبي من السنوات .

(( آخر العنقود )) وعلى الرغم من هموم الدنيا التي تضيق الخناق عليه مع كل يوم يمضي ، إلا أنه لم يكن يكدر صفو متعة والده في أثناء سرده لماضيه الجميل ، فهو يعلم مقدار الألم الذي يحاول كتمانه وهو يرى إخوانه وأولادهم يتطاولون في البنيان بعد أن كانوا في الماضي يحسدونه ويشيرون عليه بالبنان ، بل إنه كان يدرك تماما أن أحاديث والده ليست إلا محاولة لإنكار هذا الحاضر الذي جعله على الهامش في عائلته ومهنته بعد أن كان كبيرهم في يوم من الأيام .

(( آخر العنقود )) كان حزينا على والده أكثر من حزنه على نفسه ، فهو لم يعاصر تلك الأيام الذهبية ولم يشعر بالاختلاف في نمط المعيشة والرفاهيه ، وكم كان يتمنى لو كان بمقدوره أن يعيد لوالده مكانته التي كان عليها ، فلا يتجرؤ عليه أقزام هذا الزمان (( محدثي النعمة في الجاه والمال والسلطان )) .

وها هي الديون التي أثقلت كاهل (( آخر العنقود )) تجمعه برجل كهل في أحد البنوك ، أتى أيضا لتسديد ما عليه من الديون التي يتساوى أمامها كافة الرجال بالهم والقهر ، فيلتفت إليه ليبث شكواه من كثرة متطلبات ابنه الذي أسرف في دلاله واقتطع من فم سعادة أيامه واحتياجاته الشخصية لكي يعيش هو في الرفاهية والرخاء ، ولايلبث أن يختتم حديثه قائلا : (( أتدري يا بني ماهي تتمة المثل الذي يقول : قلبي على ولدي )) فيجيبه (( آخر العنقود )) بابتسامة لا تخلو من التحسر والألم : (( وقلب ولدي على الحجر )) .

Followers

Pageviews Last 7 Days