عذرا يا أختاه

اقترب العيد العاشر ، ليذكرني بقطيعتي المتواصلة عن زيارة قبرك ، أحقا اعتقدت أن واجب صلة الأرحام ليس بعد الآن من حقك ؟ أم أني بالغت في إقناع نفسي وطمأنة ضميري بأن (( الحي أبقى من الميت )) .

كم كانت والدتي تحدثني عن الأوقات التي قضيتها بين ذراعيك (( وليدا ورضيعا وطفلا )) ، إلا أن ذاكرتي لم تكن تسعفني في تذكر أي شيء من ذلك ، ولا تجود على مخيلتي إلا بتذكر ذلك اليوم المشؤوم الذي كنا فيه بالمنزل بمفردنا ، أنت وتوأمك (( طارق )) لايفصلكم عن عامكم الخامس عشرة سوى بضع شهور ، وأنا أتأخر عن قطار عمركم بعشرة أعوام وثمانية شهور .

لم تكوني تعلمين في تلك اللحظة بالذات أنك لست ذاهبة للاستحمام ، بل لملاقاة ملك الموت الذي كان يتربص بك بجانب (( بابور الكاز )) الذي لم تكن مهمته في ذلك اليوم تأمين ما تحتاجين إليه من مياه ساخنه ، فلقد كان آلة الموت التي أحكمت قبضتها على روحك النقية مسببة لك الاختناق .

حاول (( طارق )) أن يكسر الباب ولكن دون جدوى ، وكنت أنا أقف بجانبه غير مدرك تماما حقيقة ما يحدث ، فمن الصعب على طفل لم يبلغ عامه الرابع بعد ، أن يفهم معنى مشاهدة شقيقته وهي تموت أمامه .

بدأ (( طارق )) بالصراخ ، ففزع الجيران وهرعوا مسرعين إلى منزلنا ، تسبقهم والدتي التي كانت بصحبة إحداهن تحتسي القهوه ، ولكنهم لم يتمكنوا من اللحاق بك يا (( ناديه )) وأنت تغادرين بوابة الحياة بتلك السرعه .

وقفت كالتمثال أشاهدهم وهم يضعونك على سريرك معتقدا أنك نائمه ، ولكني في الواقع لم أتمكن من استيعاب السبب الحقيقي لبكاء أمي وشقيقي وهم ينظرون إليك ، ولكن فضول الأطفال كان يدفعني لأسأل شقيقي عن سبب نومك المفاجىء ، ليجيبني بأن شقيقتنا قد ماتت ، فلا أفهم معنى كلامه وأتوجه بذات السؤال لأمي التي لم تتمكن حالة (( الهستيريا )) التي أصابتها من غريزة أمومتها في الخوف على طفلها الصغير ، لتضمني إلى صدرها وتقول : (( أنك متعبة وتحتاجين إلى قليل من النوم )) .

وبمحاولة من والدي لقتل ذاكرتنا ، انتقلنا للعيش في منزل آخر ، ولكني اعترف اليوم وبعد مضي سبعة وعشرين عاما على تلك الحادثة الأليمه ، أنني لم أتمكن من نسيان ذلك المشهد لشقيقتي الغالية وهي ترقد على فراشها الأخير .

منذ العاشرة من عمري وأنا أواظب على زيارة قبرك في كل عيد بصحبة والدي ، منذ العاشرة من عمري أدركت معنى أن تفقد شقيقتك وهي في ربيع العمر .

والآن كم أتألم كلما احتفلنا بعيد ميلاد شقيقي (( طارق )) الذي يوقظ ذاكرتي على غيابك يا غاليتي عن هذا الاحتفال الذي كنت في يوم من الأيام شريكة فيه .

كم أتمنى لو أنني لم أكن في ذلك اليوم صغيرا لعلي تمكنت من محاربة شبح الموت الذي تمكن من اختطافك منا يا شقيقتي الحبيبه .

وكم أشعر بالحزن والغضب كلما قرأت أو سمعت عن حادثة قتل شقيق لشقيقته ، وأحدث نفسي عن هذه الدنيا وغرابتها ، فأشقاء يزهقون أرواح شقيقاتهم ، وأشقاء يلومون أنفسهم لعدم تمكنهم من حماية أرواح شقيقاتهم من الهلاك ، وفي كلتا الحالتين لست أدري إن كان كافيا أن نقول : (( عذرا يا أختاه )) .

Followers

Pageviews Last 7 Days