وغابت الشمس

استيقظ من نومه مذعورا ، نظر إلى ساعته فوجد أنها الثامنة صباحا ، اقترب من النافذة ، ولكنه لم يجد الشمس التي لطالما كانت تشرق أيامه بأجمل الأفراح ، فنادى بأعلى صوته : (( أين أنت أيتها الشمس ؟ )) ، ثم ما لبث أن كرر النداء ولكن بصيغة استفهام مؤلمة وموجعة : (( بل أين أنا ؟ )) .

ولكن صدى صوته اختفى مسرعا وراء تلك الغيوم السوداء التي احتلت كل شبر في سماء حياته ، لم يكن يدري أن الطبيعة في أحيان كثيرة تشبه الإنسان في قسوتها ، وأن الشمس والمطر لايلتقيان إلا في سماء الحب المستحيل .

بدأت قصتهما في ذات ربيع من نيسان ، وهو الذي كان يدرك أن ورود الحب لا تنبت في أرض قلبه الجرداء ، أما هي فرفضت أغلاق مرور أوراقه من ذاكرتها ، وأنشدته نغما يمشي بين غياهب الزمن ، فتلعثمت الحروف في لسانه بالحروف ، وكيف لا تتلعثم وهو يقف على بعد خطوات من دخول قلب أعظم ملكة في تاريخ بلاد الشام والعرب ، نعم فهي أجمل من (( بلقيس )) و أروع من (( عشتار )) بل هي كانت دوما في عينيه ولا تزال : (( ست النساء )) .

كم عاش من الأيام يبحث عنها في وجوه النساء ، وفي كل مرة كان يعود بخيبات وخيبات ، فكل امرأة صادفها كانت نسخة مزيفة منها ، وها هي الأقدار تتواطؤ على ترتيب لقائهما بعد أن فقد فروسيته وشجاعته على تحدي كل من إلى عينيها قد سبقوه ، يا لقسوة هذه الحياة ، فبعد أن يئس من كثرة بعثرة الوجوه والأماكن و تنازل عن الأمل في إيجادها واقنع نفسه بأن ليس لها وجود في أرض ولافي سماء ، تأتي إليه في ذات صباح من أيار .

وجاء حزيران ليفتتح بحضوره صفحات أيام حياتهما تحت وطأة المستحيلات ، بتلك المساحة الأجمل في استراق لحظات من هذا الزمن الذي أضحى فيه كل شيء مباحا باستثناء الحب .

اقتبست له مشاهدة من ذاكرة الزمن الجميل برسالة عاشق من عصر الحب والحرب ، يجيب فيها على تساؤل حبيبته عن العشق ، بأنه توحد البصر والنطق والسمع في صمت الحبيب وكلامه وصورته ، فهو يجري في جسده جريان الدم ، ويسبح في روحه كحورية تسكن اليم .

وها هو تموز يشهد على فرحه غير المسبوق ، بمقطوعة موسيقية رائعة تتكون من أربعة حروف ، نطق بها ثغرها العذب : (( أحبك )) ، فكانت تلك الحروف كنهر من أنهار الجنه ، دنا واغترف منها غرفة جعلته لا يظمأ بعدها لحب امرأة أخرى ، فأقسم لها أن كل النساء من بعدها في حياته كالرجال ، وأنها ستبقى دوما أسطورته الخالدة في العشق والغرام .

وقبيل حلول آب ، انتهت واقعة صراع العقل والقلب ، لتعترف له بأن عداد الزمن يمضي مسرعا وأن الأحلام بدأت تشيخ ، رفضت أن تقول له : (( وداعا )) ، ولكنها في الوقت ذاته أبت أن تراهن على غيب الأيام الذي قد يحمل بشرى لقاء مجهد بمعادلات الإنتظار المزدحمة بالمجهول .

وجاء أيلول حزينا كعادته ، لم يتمكن على الرغم من تواطئه مع أشهر السنة الهجرية أن يمحو الألم والحزن مع حلول عيد الفطر السعيد ، فلقد رحلت برحيلها كل الأعياد ، و لم يكن باستطاعته أن يلومها ، فوجوده كان عبئا ثقيلا في حياتها ، وهي لن تجني من محبته إلا إجهاضا لأحلام أنوثتها التي ليس لها في الدنيا من مثيل .

تمنى لها كل السعادة وعاد أدراجه إلى ما يلزم مكانه من الحزن والأسى ، وهو الذي اتقن منذ أقدم العصور كيف يتعايش مع أحزانه وخصوصا في شهر أيلول ، لقد كان دوما على قناعة بأن تلك الأنثى كانت من وحي الخيال ، ولكن الأقدار شاءت أن يدرك أنها موجودة في مكان لا يمكن أن يحتويهما معا ، وكان ذلك كافيا ليستريح استراحة المحارب الأخير في معركة البحث عن الحب الأسطوري ، فعاد إلى خيمة نصيبه وقدره من هذه الدنيا ، وغابت شمس السعادة عن سماء حياته إلى الأبد .

تقول الأديبة الرائعة غاده السمان في وصف الصراع بين احتفاظ المرأة بمحبة الرجل وتخليها عن ذاتها وقناعاتها الثابتة في هذه الحياة في سبيل ذلك : (( لا أريد أن أتعرّى من حبك كي لا أفقد ذاكرتي .... ولا أستطيع أن أرتدي حبك كي لا أفقد ذاتي )) .

Followers

Pageviews Last 7 Days