رسالة عشق جدلية

(( لست أنساك وقد أغريتني بفم عذب المناداة رقيق .... ويد تمتد نحوي كيد من خلال الموج مدت لغريق ))

هل يبدأ رسالته بتلك الأبيات أم يعيد قول أبيات الشاعر الأندلسي (( ابن زيدون )) في حنينه لمعشوقته الوحيدة (( ولادة بنت المستكفي )) حين قال لها :

(( بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقا إليكم ..... و لا جفت مآقينا ))

إن ذروة الألم للعاشق تحدث عندما يدرك أن معشوقته قد ابتعدت عنه وهي لاتزال تحبه ، ولا يكمن موضع الألم هنا في تحليل أسباب ذلك الفراق أو الجفاء ، بل العذاب وكل العذاب ينحصر في مقارنة أيام السعادة التي كانت بقرب تلك الحبيبة وكيف أضحت بعد فراقها ، وصدق مجددا (( ابن زيدون )) في القصيدة ذاتها حين قال :

(( حالت لفقدكم أيامنا فغدت سودا .... وكانت بكم بيضا ليالينا ))

حاول أن يعيد ترتيب أوراق الرسالة ولكن التساؤلات والأفكار التي بدأت تهتز كالزلزال الذي قضى على كل أعمدة بنيان حروفه كانت له بالمرصاد ، فسأل نفسه قائلا :

(( لماذا لا تنتهي قصص الحب العنيفة إلا بالفراق ؟ ))

تساؤل يتكرر دوما ، بل هي الصورة الثابتة في آلة الزمن لكل قصص الحب الأسطورية ، وكأن السعادة لم تكتب في معجم العشق إلا في مقدمة صفحاته ، أما تتمته فليست إلا لوعة وحنين ، وفراق ودموع ، وحسرات وألم .

وقبل محاولته للهرب من الإجابة على ذلك التساؤل ، بدأ شيطان ظنونه ببث وساوسه محاولا إقناعه بأن العاشق لا يحول بينه وبين معشوقه إلا الموت .

رفض الرضوخ لذلك الوسواس واستعاذ منه ثلاثا ، ولكن مالبث أن وقع في براثن تساؤل جديد ، يرتبط في إنحصار التفكير في استمرارية عشق ليس منه أمل ، وكأن الحب استبانة لابد من تعبئة خاناتها ومعرفة نتائج تقييم أسئلتها وعلاماتها قبل الانصياع لأوامر القلب ومشاعره التي تلتهب بمجرد ملامسة فتيل الهوى الذي يشعله الحبيب دون تمهل .

ولكن المذياع الذي كان يحاول جاهدا أن يجذب انتباهه ، تمكن أخيرا من إرباك أفكاره وبعثرة أوراق رسالته بنصائح كاظم إلى تلميذه ، فتذكر مصدر تلك النصائح التي كتبها نزار : (( الحب ليس رواية شرقية بختامها يتزوج الأبطال .... لكنه الإبحار دون سفينة وشعورنا أن الوصول محال )) .

فما لبث أن بدأ بالصراخ قائلا (( لقد وجدتها ، فالزواج يعني الامتلاك والنهايات السعيدة وهذا حتما السبب في انحسار لهيب الحب في العديد من قصص العشق و الغرام )) .

ولكنه تذكر قول أحد الشعراء (( وأعظم ما يكون الشوق يوما إذا دنت الخيام من الخيام ))

فسأل نفسه مجددا (( أليس في ذلك دلالة على أن الحب يزداد اشتعالا عند اللقاء والاقتراب من المحبوب ؟ ))

عادت به الذكريات إلى دراسة كان قد اطلع عليها في الماضي تشير إلى أن العمر الافتراضي للحب لا يتجاوز الثلاث سنوات ، فكيمياء المخ المسيطرة على عملية الحب تظل تولد شحنات الحب والطاقة والعواطف طوال تلك المدة ومن ثم تتوقف تلك الشحنات كالبطارية التي فرغت إلى الأبد ، دون القدرة على إعادة شحنها من جديد ، وليست المشاعر بعد تلك الفترة سوى امتدادا لمشاعر الدفء والإخلاص ولكنها ليست مرتبطة بالحب .

ولكنه تذكر أيضا نصائح الطبيب النفسي الشهير (( جون غراي )) مؤلف كتاب (( الرجال من المريخ النساء من الزهره )) في أن للرجال دورة محبة تبدأ قوية ومشتعلة ولاتلبث بعد فترة بالانحسار والهرم والبرود ، مما يتطلب من النساء في فترة هرم مشاعر الرجل عدم محاولة الإقتراب منهم والإلحاح على مطالبتهم باثبات محبتهم ، بل لا بد في تلك الفترة من تجاهل الرجال تماما والانشغال بالأمور الحياتية الأخرى ، لأن تلك الفترة ستكون مؤقتة وبعدها تبدأ مرحلة المحبة في دورتها من جديد حين يشعر الرجل بمدى شوقه واحتياجه لإمرأته .

(( إذن فما هو المبرر من انسحاب المرأة وابتعادها مبكرا ودورة حياة المحبة في أوج عطائها ؟ )) تساؤل آخر شتت أفكاره ورسالته من جديد .

قرر أن يتوقف عن كتابة الرسالة ولكن تساؤلا أخيرا ظل يطرق باب عقله دون توقف مما دفعه للرضوخ وفتح الباب لسماعه ، فكان ذلك التساؤل باختصار : (( متى نتأكد أننا نعيش حالة حب ؟ )) .

فأجابه مجددا (( ابن زيدون )) قائلا : (( لا تحسبوا نأيكم عنا يغيرنا .... أن طالما غير النأي المحبينا ، والله ما طلبت أهواؤنا بدلا منكم .... ولا انصرفت عنكم أمانينا )) .

Followers

Pageviews Last 7 Days