ذكريات الغروب

في رمضان كلما بدأت الشمس بوداع السماء في ساعة الغروب ، تستيقظ ذاكرتي على أصوات أيام قادمة من ماضي ثلاثة عقود ، أولها طفولة بريئة وأوسطها مراهقة طائشة وثالثها رب أسرة بمسؤوليات كبيره .

فساعة الغروب تمضي كعمر بأكمله بين لحظة انتظار إمساك كوب من الماء ليروي ظمأ العروق وبين شريط الذكريات الذي يعبر أمامي ثلاثين يوما في تقويم تعداد الأيام الطبيعية وتسعمائة سنة في تقويم ذاكرتي الانتقائية .

في طفولتي كنت أسابق الأيام لأكبر ، وفي مراهقتي أفرطت في ذلك السباق لأتزوج ، والآن أتجنب ذلك السباق الذي يقف على أعتاب خطوط نهايته شيخوختي أو موتي .

في رحلة ذكريات الغروب أشفق على مقاعد مأدبة الإفطار التي أتعبها الشوق لمن هجرها إلى سرير في جوف الأرض ، ولمن استبدلها بمقاعد الغربة بحثا عن راحة ظهور الأيام المنهكة من ( روماتيزم ) الأرزاق الذي استعصى علاجه .

في لحظات الغروب أواظب على تكرار حيرتي من تلك السياسة التي سئمت منها في إعادة البحث عن بدائل للأحلام المهدورة و البدء بشحذ عزيمتي والاستعداد لمشاريع تحقيقها مع نهاية الشهر الفضيل .

عند الغروب أتذكر ذلك الخنجر الذي طعنني وطعن العديد من النساء في معارك القلوب الدامية التي نشبت بيننا ، والتي كنت دوما عندما تضع أوزارها لا أشعر بنشوة النصر ولا بمذلة الهزيمة ، وإنما أحافظ على قناعاتي في أن الدنيا ( قسمة ونصيب ) ولن نأخذ منها إلا ما هو مكتوب لنا .

لا أنكر أنني كنت أحاول كثيرا الهروب من ذاكرة الغروب في رمضان إلى طوابير ( التمر هندي والسوس والليمون أوالقطايف والحمص والفول ) والتي تتكفل مشاجراتها اليومية في إخماد نيران ذاكرتي وإشعال فتيل لساني الذي يتورط في كثير من الأحيان فيها عندما تبدأ بشخص يقحم نفسه في بداية الطابور أو شخص تتعالى صيحاته للإسراع في تلبية الجموع الغفيرة قبل وصول المؤذن للمسجد ، ولكني عند احتدام وطيس تلك المشاجرات تنحصر أمنياتي في العودة إلى سجون معتقلات ذاكرتي التي لن أتورط فيها إلا بمشاجرة نفسي .

اللقاء مع ذاكرة الغروب في الماضي كان مرتبطا بالحزن على لحظات سعادة غرقت في محيط الأيام ولكن ذاكرة الغروب الآن لا تحمل في طياتها إلا الخوف من أن يكون حزن الماضي بمثابة سعادة وهناء عند مقارنته بالحاضر والمستقبل .

قد أكون اتخذت القرار في هذا العام للهروب من ذاكرة الغروب إلى طابور التدوين في مواجهة مباشرة بين صمتي وقلم بوحي لأنني أتمنى الانعتاق من ذكريات الغروب ، بل و أتطرف في أمنية ولادة ذاكرتي من جديد ولكني سأرفض أن تكون مرتبطة بعد الآن بلحظة الغروب بل أريدها مشرقة مع شمس كل يوم جديد ، لأتمكن من كسر كل قيود التشاؤم و أفلح في إبرام المصالحة بين أرادتي و استجابة القدر .

أحقا سيتمكن قلمي من قتل ذاكرة الغروب ؟

أحقا في الكتابة وحدها أستطيع حفر مقابر جماعية لذكريات أود التخلص منها ؟

كم أخشى من معاقبة نفسي بالصمت مجددا بعد أول جريمة كتابية سأقترفها ......

Followers

Pageviews Last 7 Days