رسام الكلمات

أمطار وثلوج ، هذا هو حال الطقس منذ أسبوع ونيف ، حتى أصبحت رؤية الشمس أمنية لا تتحقق حتى في الأحلام ، والبرد قارص ، ينخر العظم بلا هواده ، وذلك يستدعي البقاء بجانب المدفئة الغازية أو الكهربائية برفقة طبق من المكسرات ، وإعادة مشاهدة المسلسلات في فترات عرضها الصباحي والمسائي ، مع تعاظم الانجماد في الأطراف السفلية والعليا إذا راودتها حركة خاطئة خارج حيز المدفئة الضيق .

وموجات الزمهرير المتتابعة هذه ، من الصعب التكيف معها ، إذ لابد من استقبال عامل أنابيب الغاز ورتق جيبته بما يعادل عشرة دولارات في كل زيارة تتكرر مرتين في كل ثلاثة أيام ، وليس الحال أفضل حين نتحدث عن فواتير الكهرباء الشهرية، والتي تضاعفت بعد إقرار طرائق محدثة في احتساب كلفة استهلاكها وبما ينسجم مع مصلحة المواطن بالتأكيد ، ومن الذي سيجرؤ على الخروج في جوف الليل لشراء دواء أو مستلزمات منزلية مستعجلة ، غير الذي ستكون (( أمه داعيه عليه )) ، أو من ذا الذي سيفكر في اللحاق برفاق المقهى لتصفية ثأر خسارة حدثت في لعبة الورق قبل حلول هذه المنخفضات الجوية التي تأبى الارتفاع ، إذ أن الحصافة هنا تستدعي ضبط النفس والأعصاب ، والتزام المنزل في عزلة إجبارية لا تنقطع أسبابها إلا (( للشديد القوي )) .

و عندما يأتي الصباح يكون الخروج من المنزل إجباريا للذهاب إلى العمل ، ولأن موعد الدوام موحد في معظم الداوئر والمؤسسات الحكومية والخاصة ، مع استثناء المدارس التي غابت عن هذا الموعد الصباحي لظروف تتعلق بعطلة منتصف السنة الدراسية ، فإن جميع الطرق ممتلئة عن بكرة أبيها ، وليس هناك من فرص للشوارع الاسفلتية كي تلتقط أنفاسها ، وحوادث السير حدث و لاحرج ، ودفاتر رجال المرور نفدت أوراقها من تحرير المخالفات المرورية التي لم تقصد التربص بالسائقين ، وكل مركبة وحذاقتها في اللجوء إلى خارطة الشوارع الفرعية ، والتي لا تكون بالضرورة الحل المثالي الذي قد يضمن التخلص من مواعيد (( عرقوب )) والوصول إلى المواعيد على الطريقة الإنجليزية .

ومن غير المألوف أبدا ، أن يضرب المرء في مثل هذه الأجواء موعدا مع حبيبته المفترضة ، ولكن (( للضرورة أحكام )) ، إذ أن هذا اللقاء قد تم التخطيط والاستعداد له منذ الصيف المنصرم ، وحين أزفت اللحظة الموعودة ، وخرجت من عملي مسرعا للحاق بحبيبتي قبل أن تسأم من الانتظار ، وقعت أسير جنون الطرقات ، ومع ذلك لم أبالي ، بل استعنت بخبرتي الممتدة لثلاثة عقود في مخطوطات شوارع هذه المدينة ، ووصلت إلى مكان لقائنا مبكرا ، لأخالف بذلك كل الأعراف السائدة في مواقيت مواعيدي المتأخرة على الدوام .

وحين أقبلت حبيبتي من خلف الرؤوس المتصاعدة على السلم الكهربائي في إحدى المولات التجارية ، بشعرها الأسود المنسدل على ظهرها كالحرير ، وملامحها اللاتينية التي ذكرتني بأساطير الأغريق ، وقامتها الممشوقة بخطوات تسير بخيلاء ، ارتبكت كـ (( أحدب نوتردام )) حين شاهد (( الاسميرالدا )) ، فلقد كان جمالها يفوق كل الصور التي رسمتها في خيالي .

ولكن العلاقة بيني وبين الفرح سيئة للغاية ، فبعد أن تلاقت عيوننا ، شعرت أن عدوى الطقس البارد قد أصاب حماستها نحوي ، وتحققت هواجسي حين أخبرتني أنها مضطرة للذهاب بسبب ظرف طارىء ، دون أن تبدي تماما ما قد جثم على صدرها من نفور لم أتمكن من تعليل مسبباته على وجه الدقة .

ثم صعدت السلم الكهربائي مجددا ووقفت خلفها دون أن أجرؤ على الكلام ، بل اكتفيت بسد رمق الاشتياق بالنظر ليس إلا ، وذهب كل منا في حال سبيله ، لا ندري ماذا سيكون من أمرنا في الغد القريب .

وجاء اليوم التالي ، وتبادلنا الرسائل الالكترونية كالمعتاد ، ولكن ردودها كانت مقتضبة وجافة ، فحاولت اجتثاث مخاوفي والحديث بعبارات مباشرة عن انطباعها حول اللقاء ، فظلت كلماتها مبهمة وتحتمل التأويل في عدة اتجاهات ، وهذا جعلني أمسك بزمام المبادرة كي أصف لها سعادتي برؤيتها ، مستعينا بالكلمات التي لا أبرع إلا برسمها ، فقلت لها أن عيوني كانت تتمنى أن تلتهم كل ركن منها وهي أمامي على السلم الكهربائي ، ولكن هذه الجملة كانت كـ (( القشة التي قصمت ظهر البعير )) ، لتعاتبني بلهجة لاذعة بعدها وتتهمني بأنني لا أجيد الحديث مع سيدة مخملية .

وأنا الذي قضيت عمري بين دواوين الشعر وروايات الحب والغزل ، كي أتعلم الرسم بالكلمات في لحظة ألتقي بها مع محبوبتي ، فهل كنت تلميذا سيئا إلى هذا الحد ؟

Followers

Pageviews Last 7 Days