حسبك الوهم

لا تنتظر ، فهاتفك لن يتعافى من صمته المدقع ، ولن يستدرك نطاق تغطية الصفح من جديد ، بل إنك مهما حاولت أن تسدد من فواتير اعتذار مستحقة الأمد ، فليس هناك من أمل قد يعيد قلبك المفصول عنها ، بعد ذنبك الذي لم يكن خطيئة كبرى ، ولكنه كان كافيا ليرديك كافرا بمذهبها العشقي الذي لم تؤمن في يوم بسواه .

أتظن أنها تذكرك في سر أو في علن ، أم تعتقد أن اعتماد أوراقك في ذاكرتها ، لن تقوضه نيران السخط التي ذابت فيها شموع الأمل ، فحسبك الوهم إذن ، واصبر صبرا ليس جميلا ، فهجرها علقم ستتجرعه عند دلوك الشمس إلى غسق الليل و حتى مطلع الفجر ، و لاتحزن على ما فاتك ، فلا حسرة بعد أن أوصدت أبواب قلبها ، ولا دمعة من الممكن تزكيتها ، في يوم لن يجدي فيه الندم .

يا ليت الزمن قد توقف يوم لقائها ، فالحياة من قبلها لم تكن إلا شقاء ، ومن بعدها لن تبارح أيامك العناء ، وهذا سيكون حالك في الصبح والمساء ، وفوق كل أرض وتحت كل سماء ، فسعدى بما حظيت به من تلك السيدة اللاتينيه ، بعد أن أخلفت موعد رقصتك على ألحان ( زوربا ) في ذات صيف محتمل ، وألقت بك وراء فراغها وحيدا ، كي تسامره في ليالي هذا الشتاء .

ما أصعب أن تلامس السحاب بيديك من فرط سعادة وهبتك إياها أقدار لم تكن تتوقعها ، وما أيسر أن تلقي بك هواجس كنت تتوقعها بالذات ، في وديان سحيقة من الحزن والألم ، ألا تسير عجلة الحظ بدورة معاكسة في سيرة رجل اعتاد أن يتاجر في القبور حين كان الموت لا يزور البشر ؟

كلماتك منذ هذه اللحظات ستفقد بريقها ، بعد انقطاع وحي حضورها من صحف أيامك ، فيا أسفا على تدوينات عزفت على كتابتها ، ظنا منك أن بلاغة الحديث ستكون مدعاة لاستدراج محبتها ، وكأنك نسيت أو قد تكون تناسيت أن القلوب لا تميل إلا للمال والجاه والسلطان ، فأنكرت كينونتك أيها الكائن الحبري الذي تنتهي دورة حياته المفترضة دوما عند علامات التعجب وأدوات الاستفهام .

آن الأوان كي تعود رجلا نمطيا ، تسير في الطرقات مطأطأ رأسك ، لا تجرؤ على رفع هامتك إلى عباب السماء ، فالقناعة كنز لا يفنى ، وهذا ما ألفيت عليه آباءك وأجدادك ، حياة رتيبة بين البيت والعمل ، ووجبات طعام بمواعيد ثابتة لا تتغير ، ومطالعة الصحف الرسمية في كل صباح من باب تزجية الوقت ليس إلا ، والحرص الشديد على حضور كل المناسبات الإجتماعية من مآتم وأعراس ، والمفاخرة برسومات أشجار تتوسط جدران المجالس ، وقد كتب على أوراقها أسماء أبطال العائلة وتاريخهم السرمدي في الإنجاب والأكل والشرب والنوم .

ما الذي اختلف في طريقة انتقاء المرأة لرجلها قبل عصر العولمة وبعده ؟

في (( الفيس بوك )) ستتجمع النساء عند من تصور بجانب سيارة فارهة أو داخل قصر مهيب ، أو عند من أعلن في بياناته الشخصية أنه يشغل منصبا رفيعا في مؤسسة حكومية أو شركة تجارية ، و لاضير بما سيتم نشره على جدران صفحات هؤلاء الرجال من تفاهات ، فالإبهام سيكون دوما للأعلى من كل العابرات فوق صفحاتهم الالكترونية ، حتى لو قال أحدهم مثلا : (( اليوم هجرت امرأة أجبرتني على أكل المنسف بالملعقة )) .

ولأنك لم تؤت جوامع الكلم الذي يطابق شاكلتهم ، تعثرت عند أول منعطف في درب الحب ، واعتزلتك حبيبتك المفترضة ، من قبل أن تحفظ ملامحها في مخيلتك ، وهذا يستدعي منك أن تتقدم بجزيل الشكر والامتنان لمشاعرها التي لم تتعمد الزيف والمواربة ، فلقد تركتك في الحيز الملائم لك تماما ، أتراك أدركته الآن أم لا تزال تتنكر له ؟

إنه وهمك الأزلي الذي جعلك دوما تعتقد أنك رجل استثنائي ، ولكنك في الحقيقة لم ولن تكون كذلك ، فعش حياتك وأذعن لحقيقة سيرتك العادية ، وضع رأسك بين الرؤوس ، وامش بجوار الجدران ، ولا تتحسس مكان نافذة قد تكون مشرعة أمامك لحياة غير عادية ، بل ردد فقرات الروايات التي حلمت أن تكون في يوم أحد أبطالها ، وحسبك الوهم يا صديقي وكفى .

Followers

Pageviews Last 7 Days