بعوضة

ابتدأ نهاره ببشرى سارة (( سيارته مسروقة )) وهي في الحقيقة الملكية الفردية الوحيدة التي تملكها في حياته الجميلة ، قلب كفيه واستغفر رب العباد ، ثم انطلق راجلا إلى أقرب مركز أمني وقدم بلاغا مفاده (( سيارتي التي تجاوزت خمسة عشر عاما ، قد تم اختطافها من أمام منزلي ، ولكني أعتقد أنها هربت مني ، فهي ما شاهدت معي إلا الحظ العاثر ، فأنا رجل كلما ظن أن الدنيا تبتسم له قليلا ، انهالت عليه سخطا وغضبا ولؤما أكثر )) .

في المساء ، كان يجلس على أريكته بقميص ذو أكتاف عارية ، مزهوا بعضلاته المفتولة ، ويتابع التلفاز كعادته في سهرة صيفية رتيبة ، لقد كان قراره في الانعزال عن الخلائق مدعاة للتفكر ، إذ أصبح ضيق الأفق ، ولا يلجم غضبه أمام أدنى قول أو فعل قد يثير حفيظة شياطين الاستفزاز لديه ، وهو الذي كان في زمان مضى ، بشوشا ، سمحا ، طيبا ، ولهذا اختار العزلة ، بعد أن فقد نفسه في داخل نفسه .

يوقف حاكوم التلفاز على قصة فيلم تروي معاناة الناس في الولايات المتحدة الأمريكية بفترة الكساد الإقتصادي الكبير مطلع القرن الماضي ، ويلاحظ كيف أن لقمة العيش جعلت أفراد المجتمع يخلعون رداء انسانيتهم ، ويتصارعون كوحوش الغاب من أجل البقاء ، فتسللت الهواجس وسيطرت على مجريات الأفكار في عقله ، ليعقد المقارنات بين أمريكا اليوم وأمريكا في أمس الكساد العظيم ، ثم لا يلبث أن يتجنب مقارنتها بما يجري فوق ساحات الدول العربية من نكبات اقتصادية لاتعد ولاتحصى ، كي لا يسأل نفسه عن السبب الذي جعل النفوس ودماءها وأموالها وأعراضها رخيصة بين أبناء الوطن الواحد .

يتنقل إلى محطة تلفازية أخرى ، فيجد فيلما يتحدث عن مشروع لمخلوقات فضائية ، يهدف إلى شطب ذاكرة أم اختطفوا لها ولدها ، كي يثبتوا أن قوة القمع تتجاوز حدود روابط الأمومة ، وحينها فمن الممكن استئصالها من جذورها ، ولكن يا لذلك المشهد العظيم ، والمخلوق الفضائي يختطف من عقل تلك الأم كل ذكرياتها مع ولدها منذ لحظة ولادته ، ليسألها بعد ذلك (( هل كان لك في يوم ولد ؟ )) ، فإذ بذاكرتها الملغاة تعود إلى الوراء ، إلى مشاهدات كانت لأيام حملها بذلك الولد في أحشائها ، ليصيب المخلوق الفضائي ضرب من المس والجنون ، فيعترف بفشل قوته في القضاء على تلك العلاقة الإنسانية العظيمة ، وعندها ترواده الأفكار مجددا ولا يتمكن من طردها وهي تعقد له مقارنة بين تلك القصة وبين قصة أم تشاهد ولدها ينكل به لأسباب سياسية ويطالبوها بعد ذلك بالنسيان .

يبتسم ساخرا ويلتفت من غير سابق إنذار إلى كتفه الأيسر ، فيجد بعوضة قد حطت عليه وبثقة لامتناهية ، تتأهب لغرز إبرتها في جسده واستباحة هدر دمه دون أدنى خوف أو تردد ، فما كان منه إلا أن أعد العدة للإنقضاض عليها بصفعة ترديها إلى أشلاء متناثرة ، فالدماء التي تجري في عروقه باهضة الثمن ، وكل من تسول له نفسه بالتعدي عليها ، لابد أن يكون مصيره الموت لا محالة .

وفي لحظة كلمح البصر ، تنطلق صفعته صوب البعوضة ، لتستقر أصابع كفه كالوشم فوق جلد كتفه من قوتها ، ولكن البعوضة تمكنت من الفرار ، ليلعن ويشتم ويصرخ كالمجنون بصوت تعالى صداه في أرجاء الحجرة : (( من أنت ... من أنت ... من أنت ... أتعتقدين أنك تستطيعين هدر دمي وأنت مجرد بعوضة ... أين ذهبت ... حتما سأجدك ... وعندها أقسم أن أمزقك إربا )) .

يهدأ قليلا ويعاود التنقل بين محطات التلفاز الفضائية ، يناظر ساعته ، فيتذكر موعد نشرة الأخبار ، يتابعها باهتمام شديد ، ويجد أن القاسم المشترك بين جميع الأنباء التي سمعها ، عاملا ثابتا يتأكد مع كل تجربة حياتية ، يثبت كم هي دماء الشعوب العربية رخيصة على ولاة أمرها ، ينكمش فوق أريكته ، ويشعر بضمور يسري في عضلاته المفتولة ، ثم لاتلبث أن تصيبه نغزة في كتفه الموشوم ، ليجد البعوضة قد عادت أدراجها كمليكة متوجة لتوها على عرش أرض ما ، لم يجرؤ على إعادة الكرة بصفعها مجددا ، لأنه أدرك حينها أن البعوض يقارع الموت كي يعيش ، أما الإنسان العربي فيقارع الحياة ولكنه لا يعيش .

Followers

Pageviews Last 7 Days