أم الوليد

على إحدى شواطىء البحر الأبيض المتوسط ، تزوج والدها (( اليافوي )) من والدتها (( القبرصية التركية )) ، وبعد مرور شهور أتمت عدتها ، وقبل نضوج بيارات البرتقال في (( يافا )) ، ولضرورات وظيفة والدها كشرطي متنقل بين المدن الفلسطينية ، جاءت إلى الدنيا في بداية تشرين قرب بوابات (( القدس )) ، وحين كانت تستعد لتعلم النطق ، وجدت نفسها تلميذة نجيبة في ضواحي (( الخليل )) ، ولما اشتد عودها وجاوزت طفولتها البريئة ، زج بها والدها للزواج من رجل متزوج بذرية من ثلاثة أبناء ، في أرض هاجرت إليها مرغمة كي تبحث عن فرصة جديدة في الحياة ، لتسجل بذلك مكانها في التاريخ العماني الأول ، كسيدة ستبهر كل من سيجتمع بها بفصاحة فطرية في حديثها ، وبديهة تستحضرها أناتها ، وقلب كالمحيط يتسع لاحتواء كل صنوف البشر من حولها .

ولأن بينها وبين تشرين مواثيق وعهود ، فقد أبرمت معه بالذات عهدها الأغلى ، وهي تهوي على (( وليد )) بصدرها ، كي تطبق شفتيه الباكيتين بماء أمومتها الأول ، وقد ترنم صوتها بأغنية فيروزية ستعتاد غنائها لأربعة أبناء لاحقين ، وسبعة أحفاد سيتعاقبون من أصلابهم ، لا يصمتون عن بكائهم إلا بعد سماعهم لآهاتها وهي تستعد للغناء لهم : (( يلا تنام ... يلا ينام ... لادبحلا وادبحلو طير الحمام ... روح يا حمام لا تصدق ... بضحك على وليد .. منى .. طارق .. ناديه .. أشرف .. حنين .. محمد .. عبدالله .. ساره .. عمر .. ياسمين .. عمر  تينام )) .

وفي نهاية سبعينيات القرن الماضي ، لم تكن (( أم الوليد )) لتتوقع أنها ستلتقي بولد سيستقر في أحشائها مطمئنا ، ويفاجئها بأمومة متأخرة في الأربعين ، ولأنه كان (( آخر العنقود )) فلقد اكتشفت معه عواطف لم تختبرها قط ، فكان صديقها الوفي ومستودع أسرارها الأمين ، وكانت تستذكر فيه دوما شقيقها المهاجر إلى ألمانيا منذ أمد بعيد ، لدرجة أنها كانت تخطئ اسمه كلما كان يأتي بسلوك عفوي يطابق سلوكيات خاله ، فتناديه (( ابراهيم )) وهو يجيبها دون أن يلفت انتباهها أو ينزعج من ذلك ، ويظل يضحك في سره وهو يردد المثل الشهير (( ثلثي الولد لخاله )) .

لم تكن (( أم الوليد )) تدري أنها ستفقد أحد أبنائها في حياتها ، ولكن أقدارها شاءت أن تودع إحدى بناتها قبل أن تطفئ شمعة عمرها الخامسة عشر ، ورغم حزنها الذي فطر فؤادها منذ ذلك الحين ، إلا أنه ظل يفيض حنانا وحبا ، لتتمكن بدهاء أنوثتها ولكن كأم ، أن توهم كل ولد من أولادها أنه المفضل لديها كلما توارت بأحدهم في خلوة أمومة استثنائية .

ومضت بها الأيام والسنين ، وهي لا تدخر جهدا ولا تتوانى عن خدمة بيت لا تزال سيدته منذ نصف قرن من الزمان ، بل إنها لم تشتكي في يوم أو تطالب عونا من أحد ، فلا زالت تقف وحيدة تنظف الصحون والأواني بعد كل مأدبة عائلية يجتمع فيها أولادها ، متجاهلة عروضا سخية لمساعدتها من زوجات أبنائها أو خادماتهم ، ولا زالت في صباح كل جمعة تذهب إلى بائع الحمص والفول والفلافل سيرا على أقدامها ، لتحضر الفطور لزوجها الذي لم يعد قادرا على المسير ، وتصعد أدراج أربعة طوابق كي تشارك أصغر أبنائها وزوجته وأولاده بتلك الوجبة البقولية ، وهو في كل مرة يرجوها أن تستريح ليأخذ مكانها في تلك الجولة الصباحية ، وهي ترفض بشتى الوسائل أن تزعج منامه في يوم عطلته . 

خمسون عاما ، وهي الأم والأخت والزوجة والصديقة الوفية ، ولم تطالب في يوم باسترداد تكاليف تلك السنوات من أحد ، وقد عاشتها لترى غيرها سعيدا دون التفكير بذاتها ولو للحظات ، فكانت استجابتها للمؤثرات من حولها شرطية بتحقق أحداث تتعلق حصرا بالأولاد والأحفاد ، وظلت صابرة لا تشتكي ، على خدمة زوج اعترف بعد كل هذا العمر ، بعجزه عن الصمود يوما واحدا في شيخوخته لولا وجودها إلى جانبه ، وكم أثار هذا الموقف في نفسي من التساؤلات عن الرجال المزهوين بفحولتهم وشبابهم ، كيف يعودون كالأطفال الصغار في أحضان زوجاتهم حين يشيخون أو يمرضون . 

(( أم الوليد )) أم مثالية لثلاثة أجيال ، إخوتها وأبناؤها وأحفادها ، وفي هذا اليوم يقف قلمي وهو يسطر حروف اسمها إجلالا ووفاء ، وتقديرا واحتراما ، ومحبة لا تنضب مهما قيل فيها من كلام ، إليك يا أمي أهدي كل الكتابات ، فلا امرأة تنافسك في قلبي ، وقسما ستظلين حبيبتي الأولى وحبيبتي الأخيرة إلى يوم الممات ، حفظك الله ورعاك يا نبراسا أضاء دروب الحياة أمامي ، ويا أرضا عشقت ثراها ، فأدركت فيها الولاء والانتماء ، كل عام وأنت أمي ، وكل عام وجميع الأمهات بألف خير .

Followers

Pageviews Last 7 Days