مهاجر أم مهجر ... ما الفرق ؟

حين كنت مهجرا من موطني الأصلي قبل زهاء ستة عقود ، مشيت حافي القدمين ولم ألتفت خلفي ، واعتقدت كما اعتقد غيري ، أنها ستكون مجرد أيام معدودات ، ثم نعود مع العائدين ، فوليت أمري إلى ولاة أمري ، وجلست على عتبة السكن المؤقت أنتظر رحمة ربي ، ولكن الأيام بدأت تمضي ، وظل الوضع على ما هو عليه ، باستثناء فارق طفيف حدث خلال عقدين من الزمان ، أتم فيه (( أولاد العم )) ما خططوا له بمحاضراتهم الجامعية في اوروبا والعالم الجديد ، حين كان أجدادي منهمكين بالحرث والنسل ، ودفع الجزية (( للآغا والبيك والباشا )) ، حتى دقت ساعة الصفر ، واستقبلت أرض الميعاد ساكنيها الجدد .

عشت بعدها حياة (( بالطول والعرض )) ، ورضيت بالأمر الواقع ، وعدت إلى تجارتي ومهنة آبائي وأجدادي ، وجنيت أموالا لا تأكلها النيران ، ومع كل دورة أيام كانت تكمل عدتها ، حافظت على حذاقتي في إعادة تشغيل أرباحي ، وتجنبت وساوس زوجتي بتجميدها في شراء أراض أو عقارات ، وكنت مؤمنا أشد الإيمان ، بمثل ذائع الصيت عن سيرة الحياة السعيدة ، ولذلك كنت أعيش يومي ولا أفكر بالغد قط ، وهذا جعلني أبعثر أموالي أولا بأول ، بين سياحة وأكل وشرب وزواج متعدد الخانات من مثنى وحتى رباع ، لجنسيات انطلقت من بلاد الرافدين مرورا ببلاد الشام وختاما في أرض الكنانه ، ولأنني شخص شديد الالتزام بما قاله (( اهل زمان )) ، فلقد كانت جيوبي تفرغ حمولتها في كل ليلة كي أنام خفيفا وأنا أهذي في المنام (( الطايح رايح وبكره يوم جديد )) .

وظلت الحياة تسير بتؤدة دون أية مشاكل تذكر ، سوى حنين لا ينطفىء لهيبه إلى أرض الأنبياء ومهد الديانات ، وترقب شديد لكل قرارات القمم العادية وغير العادية ، وتلخيص قراراتها وتأويل احتمالات تطبيقها ، ولم أفقد الأمل يوما بصدق نوايا قادة الأمة في خوض غمار حرب التحرير المقدسة وما تبعها من معاهدات سلام كانت تطبق بحذافيرها حصريا لمصلحة (( أولاد العم )) ، والخطابات السياسية تتوالى ، وأنا لا أزال أهتف بحياة القادة المناضلين وجهودهم الحثيثة في ضمان حق العوده ، حتى جاء يوم ضجرت فيه من الدوران في المتاهة ذاتها ، وقررت أن أكسر مفتاح داري الذي اجتهدت بالحفاظ عليه معلقا على الجدار الرئيس في بيتي المؤقت ، ليصبح بذلك بيتي الدائم ، ومقر انطلاقي إلى مثواي الأخير ، ورضيت بالأمر الواقع ، وعقدت العزم على مواصلة العيش بعد أن حذفت من ذاكرتي كل فصول حياتي قبل الهجرة وكأنها لم تحدث في يوم من الأيام .
 

ولكن قبل بداية القرن الحادي والعشرين بعقد من الزمان ، تغيرت مخططاتي في الحياة مجددا ، بعد أن ضاقت بي الأرض بما رحبت ، تبعا لموجات تهجير أخرى حدثت على أيدي (( إخوتي )) ضد (( إخوتي )) ثأرا من نصرتهم لقائد سيتم إعدامه كالكبش في المستقبل ، فتضاءلت لقمة العيش ، وتراجعت تجارتي في سوق اشتدت المنافسة فيه بشتى ضروب الأعمال ، فصبرت وتأقلمت مع الوضع الذي لم يحافظ على ديمومته ، بعد أن تم استقبال موجة هجرة أخرى ، حدثت تصفية لزعامات لم يعد الغرب بحاجة لها ، وفي هذه المرحلة بدأ الفقر يتسلل من كل أبواب الرزق ، وانقلب المجتمع بطبقاته التي لم تكن متباينه ، ليغدو عاليها سافلها والعكس بالعكس.

وتتابع ضنك الحياة يوما بعد يوم ، ولم يعد من ضرورة لإفراغ جيوبي في الليل ، بعد أن قدت بمصاريف العيش التي عجزت مصادر دخلي الشحيحة عن رتقها ، ومع هذا حافظت على إيماني بوجوب الصبر وانتظار الفرج المرتقب على أيدي ولاة الأمر ، فخرجت أهتف بحياتهم بعد كل مؤتمر إقتصادي يحارب الفقر . 

وحين بدأ اليأس يتسلل إلى أصحاب النفوس الضعيفة الإيمان ، خرجوا إلى الشوارع والميادين العامة يطالبون بالثورة على أنظمة الظلم والاستبداد ، ولأنني مواطن صالح ، اعتزلت بيتي في أوقات الفتن تلك ، إذعانا لوصايا خطيب صلاة الجمعة ، ولم أشكك برواية المسؤول المتجهم حين أعلن على الملأ أنها مؤامرة من (( أولاد العم )) لقصم تقدم وازدهار البلاد ، ورسم خارطة مستحدثة للأمة التي أجهدها تعدد طوائفها ومنابتها وأصولها ، ومع هذا وذاك ، فكل يغني على ليلاه ، ويردد واثقا (( اللهم نفسي ومن ورائي الطوفان )) .


واليوم اكتشفت أنني لم أكن مهجرا عن بلادي ، بل أنا مهاجر عن الدنيا منذ أمد بعيد ، فكيف أنكر ذلك وأنا أسير في نطاق دروب لم يكن ثمة إرادة لي في اختيارها ؟  القادة والوعاظ والسياسيون و الإقتصاديون و الأحزاب الموالية أو المعارضة هم من يختارون ، وأنا دوري تنفيذ رغباتهم وأهوائهم  ، فهل أنا حقا على قيد الحياة ؟  

Followers

Pageviews Last 7 Days