هذيان الثالثة والثلاثين

دعوني وأنا أتهيأ خلال ثمان وأربعين ساعة من الآن ، وقبل أن أطفىء الشمعة الثالثة والثلاثين من عمر بدأ حلوا كمكعبات السكر حين تفيض في فنجان قهوتي ، و غدا شديد المرارة كزجاجة دواء يتجرعها المريض مرغما ، كلما مضت به الأيام بتتابعها الرتيب من الألم ، لأستذكر زيارتي قبل عدة أيام للحلاق برفقة رجل تجاوز العقد الثمانين من عمره ، وقدماه تخذلانه بالوقوف ، فيتأبط ذراعي خافضا رأسه ، وعيونه قد اغرورقت بدموع غير مرئية لسواه ، فولده لم يشاهده يبكي إلا مرة واحدة فقط ، عند موت والدته وجدة طفله حينها .

إنه (( محيي الدين )) ، و الذي سأتجرد معه من كل الألقاب بين هذه السطور ، ولكن ذلك لن يغير من مسلمات الحياة التي تنسبني إليه كلما تم ذكر لقبي في ظروف رسمية أو شخصية ، هو ذلك الشخص الذي جاب بقاع الأرض كلها ، وعاصر كل التواريخ والأحداث التي مضت بعالمنا منذ نهايات العقد الثالث من القرن الماضي ، خرج حافي القدمين في عام (( 1948 )) من مدينته (( اللد )) بعد مذبحة راح ضحيتها كل من رفضت خطواته إخلاء الأرض من تحتها ، ليتسنى إقامة دولة من يعتقدون أنهم لا يزالون (( شعب الله المختار )) .

وعندما وصل شرق النهر ، قرر أن يحافظ على عهده ويعيش الحياة بمعايير شبه مؤقتة ، حتى يحين موعد عودته إلى غرب النهر من جديد ، فاستدعى ذلك منه أن يتزوج ثلاثة نساء ، وينجب منهن ثمانية أبناء على مدار ثلاثة عقود قد خلت عند نهاية سبعينيات القرن الماضي بميلادي في ليلة عاصفة بالثلوج ، كي أنال بذلك لقب آخر العنقود ، والذي لم تكن حياته كلما كبر سكرا معقود .

كان (( محيي الدين )) يسافر في الربيع لأوروبا وفي الخريف لشرق آسيا بحجج ظاهرها التجارة ، وباطنها محاولة يائسة لمعانقة أكبر قدر ممكن من المدن ، والتي قد تعينه على نسيان مدينته التي لم يعد باستطاعته معانقتها ، وواصل السفر من مكان إلى آخر مستعينا بكل وسائط النقل التي عرفها البشر ، فتارة يقود مركبته من (( عمان )) إلى (( بازل )) ، وتارة يمخر عباب البحور المختلف على ألوانها بالخرائط والمتفق على لونها الأزرق عند رؤيتها ، وتارة يطير في الجو إلى أقاصي القارة الصفراء ، ويتنقل بين مدنها تحت اشراف (( سور الصين العظيم )) في قطارات بالكاد تستطيع العين رؤيتها عند كل محطة عبور ، وكان عندما يعود إلى (( عمان )) يرفض تناول غدائه في كل يوم جمعة إذا لم يكن في (( القدس )) ولقد كانت جملته الشهيرة بعد كل وجبة هناك (( أكلة والوداع ... أكلة والوداع )) حتى تحققت نبوءته في عام (( 1967 )) وودع (( القدس )) للأبد ، فاستبدل مكان وجبة الغداء الأسبوعية لتصبح في (( بيروت )) وكان أيضا عند نهاية كل وجبة يقول جملة شهيرة أيضا (( كلو يا ولاد ... يا مين يعيش للجمعة الجاي ونتغدا في بيروت )) ولكنه عاش بعدها جمعا لا أتمكن من احتسابها على وجه الدقة ، ولكن (( بيروت )) أقفلت مطاعمها حزينة بعد اندلاع الحرب في عام (( 1982 )) .

وفي عام (( 1979 )) وتحديدا بعد ولادتي بشهور ، زار (( جده )) وعاد منها بسيارة ترتبط بعدها بأجمل ذكرياتي ، رحلة في عام (( 1984 )) إلى (( سويسرا )) ، لا أذكر منها إلا بعض خيالات ، كأس الكولا الذي قضمته بأسناني في (( أنقره )) ، سترة الكلب (( سنوبي )) التي اشتريتها وأنا على قمة برج ايفيل في (( باريس )) ، إطعامي للحمام في إحدى الساحات الأثرية في (( ميلانو )) ، جولتي على متن القارب في (( البندقية )) ، وتلك الغابة الخضراء العظيمة عند مداخل (( يوغسلافيا )) ، ووقوفي خلف النافذة أشاهد الناس في الشوارع وهم يرفعون مظلاتهم في يوم ماطر بالعاصمة (( بلغراد )) ، وأخيرا هجومي على الكلاب التي كانت ترتدي ملابس أنيقة في مطاعم سويسرا وتقريع أصحابهن المسنات لي ، وحفلة العرس التي شاركنا بها أنا ووالدتي في فندق بين جبال الألب دون دعوة مسبقة ، ورقصتنا العربية التي فرح بها العرسان حينها رغم دهشة الاستغراب .

وفي عام (( 1988 )) اختصرنا رحلتنا عند البوابة التي تفصل آسيا عن اوروبا ، وهي رحلة أذكرها بشكل أفضل ، فأذكر أننا خرجنا في اليوم الأول من (( عمان )) وتوقفنا لنتناول فطورنا في (( درعا )) ، وتابعنا المسير من (( دمشق )) ولكن مع وقوف إجباري لتجاوز والدي لشاخصة حمراء ، ومن ثم جلوسنا في أحد مطاعم (( حمص )) على ضفاف نهر العاصي ، ومبيتنا في (( حلب الشهباء )) بعد تخمة أصابتنا من تناول أصناف لا محدودة من (( الكبة )) ، ووصولنا في اليوم التالي لفندق (( كاميليا )) في أعالي جبال لواء اسكندرون ، وعبورنا لجبال طوروس ، قاصدين (( أنقره )) ، ولكي نعبر بعدها الجسر المعلق فوق بحر المدينة التي أشتاقها بجنون (( اسطنبول )) عروس البسفور ، وانطلاقنا منها إلى عدد لا محدود من الجزر التركية الخلابة في البحر الأسود وبحر (( ايجيه )) .

السيارة باعها والدي لسداد ديونه ، واكتفى بالسفر حاليا من خلال القنوات الفضائية ، مع تحيز واضح للفضائية الفلسطينية ، ولقد ماتت جميع نسائه باستثناء امرأة صابرة منذ نصف قرن على أداء واجباته الزوجية ، ولحسن حظي أنها والدتي ، وبالطبع فلقد كرهت أنا مشاهدة التلفاز كي لا أنزع من ذاكرتي مشهد المدن السورية التي أحبها بعدما تحولت في هذه الأيام إلى ساحة حروب ، ولكي أتلافى مشاهدة (( اسطنبول )) فيشتعل بداخلي حنين جارف إليها ، أو إلى مدن القارة العجوز والتي أدرك تماما أنني لن أتمكن من زيارتها في هذه الأيام إلا وأنا على وسادة الأحلام ، فهل يا والدي نتمكن حقا بعد تذكر تلك الأيام الجميلة من القول بأن الأعوام تمضي بنا ونحن بخير ؟ أم يتوجب علينا أن نعيد صياغة معايدتنا لبعضنا كي نقول : (( كل عام سنكون بخير ما لم تغب شمس الصحة من سماء أيامنا )) .

Followers

Pageviews Last 7 Days