خيالات عاشق في ليلة رأس السنة

في تلك الساحات التي تعج بالبشر وهم يهتفون بالعد التنازلي لعام يلفظ الثواني الأخيرة من أيامه ، ثمة عاشق يقف في منأى عن الجموع في زاوية مظلمة لا تطالها أنوار الاحتفال ، والتي تنطفئ سريعا كلما أفصح العام الجديد عما في جعبته من أحداث وأخبار لا تليق ببشائر التفاؤل المرتقبة في بداياته .

هو ليس معنيا بالسياسة ، ولا يكترث بترقب أزهار الربيع إن أينعت إثر تغيير التربة التي تحتويها ، ولا أعتقد أن الإقتصاد بكساده أو رخائه ، وجنون الأسواق المالية وتقلبات أسعار العملات ، وانهيار تحالفات الدول العظمى أو اتفاقها ، وارتفاع مؤشرات الأمن المجتمعي أو انخفاضها ، قد تحتل حيزا من خياله في تلك اللحظات .

إن قلبه كان يشبه حياة الغجر ، فلا يستقر على محبة امرأة قط ، ولكنه في هذه الليلة عزم أمره على البقاء في أحضان امرأة تدرك تماما أن رياح الحب إذا هبت فلا بد من اغتنامها ، فالتاريخ يؤكد مع كل تعداد زمني لسنواته ، أن الذي يمضي لا يعود ويلتفت للخلف .

ولكن من تكون يا ترى هذه المرأة ؟

أهي امرأة تقطن بلاد العرب أم العجم ؟ شقراء أم سمراء ؟ عيناها كزبد البحر أم كغابات النخيل ؟ أم كالعسل الذي يقطر فوق أغصان البلوط والسنديان ؟

تراها أي حرف اختارت من الأبجدية ليهمس في أذنيها كل حروف النداء ؟ وهل حقا تتقن أناملها مداعبة وجنتيه الشاحبتين ؟ ومعانقة كفيه المرتجفتين ؟

أين كان لقاؤهما المفترض ؟ على ذاك المقعد المقابل لمنزل جدتها عند حديقة الجاحظ في دمشق ؟ أم خلف صخرة الروشة في بيروت ؟ أو قد يكون غفل أنها تنتظره في كوبري قصر النيل ؟ ولربما ابتعدت قليلا ومشت على جسور قسنطينه وسألته أن يكون بطلا لرواية لم تكتبها (( أحلام المستغانمي )) بعد ؟

كل الاحتمالات كانت ممكنه ، وهذا كان يستدعي منه أن يجتهد في حصص التاريخ والجغرافيا ، ويتقن لغات ولهجات عديدة ، ويحفظ كل قصص الحب ودواوين الشعر قبل عصر الحب العذري وبعده ، ولكن ثمة أشياء تظل ناقصة مهما سعى المرء لإكمالها ، كخطوط الحبر التي تنضب قبل رسمها على الورق .

قد يكون في هذه الليلة ينتظرها ، ولربما في الغد سيمضي مع العام الجديد ويستجدي حلول عام آخر ، كحاله منذ ثلاثة عقود قد خلت ، لا شيء مما يتمناه يحدث قط ، لعله في هذا العام يدرك أن نصيبه من هذه الدنيا لا يتعدى الأمنيات .

ولذلك أيها العاشق كفاك خيالا وتمني ، ففي الحب إما أن تكون أو لا تكون ، ومن العدم لا يخلق العشق ، و لا توجد منطقة رمادية أو بعد ثالث يخط على كراسات القلوب عاطفة يتم وأدها حين ولادتها .

عند حلول كل عام جديد ، نتفاؤل ونتمنى ونحلم ، ولكننا لا نجرؤ على محاولة الإقدام لتحقيق ما نصبو إليه ، ونلقي باللوم دوما على الظروف والأقدار التي تعاكس إرادتنا ، فمتى نتحرر من هواجس تلك القيود ، ولا نتردد ولو لمرة واحدة في حياتنا من المسير في دروب دون التفكير بنهايتها ؟

Followers

Pageviews Last 7 Days