على خطى " فلورينتينو "


منذ خمسة عقود و أنا أستجدي لقاءنا الموعود ، وقفت أمام كل الأبواب الموصدة ، وما أذعنت لليأس من انفراج أقفالها ، ومشيت في درب قد طال فيه المسير ، عازما على الوصول إليك ، غير مكترث بمحطات العمر التي جاوزتها خطوات أيامي المتلهفة للقائك ، فشحذت الأمل بقلبي ، وحملت على أكتاف روحي الصبر ، لأجدد لك مع فجر كل يوم جديد ، قسمي الأبدي بحبك .

مضى العقد الأول وأنا أبحث عنك ، أنام وأصحو ولا أهذي بكلمات لا تبدأ بحروف اسمك ، ألتهم دواوين الشعر ، وأعيش تفاصيل كل روايات الحب ، وأسهر على آهات العندليب و مواويل القيصر ، دون أن يشغل حيز تفكيري من المستقبل أي هدف لا يتقاطع مع رغبتي الجامحة في إيجادك ، وفي ذات قدر متأخر ، عثرت عليك وأنت ترتدين طرحتك البيضاء وتزفين عروسا لرجل غيري .

في العقد الثاني ، كنت كالطيور المهاجرة أتنقل من أرض امرأة إلى أخرى ، وعبثا كان تأقلم القلب بأجواء حبهن ، مما استدعى رحيلي المتواصل في ليالي الفراق خلسة وعلى رؤوس أصابعي ، فلا التفت ورائي خشية الحنث بقسمي الأبدي حين أشاهد دموعا تسألني عدم الرحيل ، وعندها أجوب كل أراضي النساء المترامية أمام بصري ، ولا أغفل الالتفاف بحرص حول أرضك المحرمة على قلبي أن يطأها ، وتحديدا في الوقت الذي كنت تحتفلين فيه بعيد أمومتك الأول فالثاني ، وأنا أقف على حدود أرضك أراقب ذلك كله ، وازداد إصرارا وعزيمة على إدراك اليوم الذي قد يجمعنا .

وجاء العقد الثالث وما أقحمتك بمعاناة الانتظار ، بل كنت اكتفي بمشاهدتك من بعيد ، والاطمئنان على دوران عجلة أيامك في مسار سعيد ، وعلى الرغم من أنني كنت استشعر دنو لحظات الشباب عن الرحيل ، إلا أن حبك في قلبي ظل فتيا ، لا تسري إليه أعراض الهرم قط .

وعند العقد الرابع اشتعل الرأس شيبا ، وأنا لا أزال أمشي في دربك وأتعثر بالفراغ ، حتى أصبحت أخشى في كل محاولة أواصل فيها المسير ، أن أجد صدر الموت يضمني عوضا عن صدرك الذي قضيت أربعين عاما وأنا أتمنى اللجوء إليه في إقامة عشق أبدية .

وبدأ العقد الخامس من مشروع حبك المؤجل ، والذي عجزت عن إتمامه طوال تلك الأيام والسنين ، وأنت حينها كنت تضيفين لقبا جديدا إلى ألقابك ، والتي حالت دوما بين قلبي وقلبك ، فمن زوجة إلى أم وأخيرا إلى جده ، ومع هذا لا استسلم قط ، ولا أتوقف عن المسير إليك ، فبمجرد أن أتذكر دنو الأجل ، كان حبك يزداد كثافة في قلبي ، فغدوت به كحصن منيع ضد الشيخوخة المستفحلة في شتى أركان جسدي ، غير آبه بمعاناتي الممتدة لنصف قرن من السنين ، والتي عاهدت نفسي أن ألقي بها وراء ظهري في يوم لقائك ، وأنا أجدد لك قسمي بحبي الأبدي .

ولكن وبعد كل هذا الانتظار ، يتمكن رجل آخر من اختطافك مجددا قبل وصولي إليك ، ويا له من رجل لم يكن باستطاعتي التصدي له بأي حال من الأحوال ، فهو أقوى من كل الرجال ، إنه الموت ، إلا أنني لم أبكي بل ضحكت ، فلقد أصبح يمكنني الوقوف عند شاهد قبرك ، والبوح بقسم حبي إليك دون أن أخشى البشر من حولي ، أو حجارة ضريح قبرك التي سيرتد منها صوتي ، فحبي لك كان دوما أقوى من كل الحواجز المنيعة ، وقطعا ستسمعين ندائي ، وتهبين من مرقدك كمليكة متوجة على عرش قلبي ، فأضمك إلى صدري الذي ظل خاويا منك نصف قرن من الزمان .


مستوحاة من (( الحب في زمن الكوليرا )) رائعة الروائي الكبير (( غابرييل غارسيا ماركيز ))

Followers

Pageviews Last 7 Days