قصص حب لم تجد لها حبيب ... القصة الأولى (( المعلمة جميله )) 3

مضت أيام وأنا أخطط وأفكر ، حتى شاهدت في المكتبة مرادي في يوم من الأيام وأنا أشتري بعض القرطاسية والكراسات ، مدية صغيرة ، كانت معروضة بجانب الأدوات الهندسية ، فسألت البائع عن ثمنها ، فأجابني أنها بنصف دينار ، أنه مبلغ باهض الثمن ، كيف سأستطيع الحصول على مبلغ كهذا ، وأنا مصروفي الأسبوعي لا يتجاوز العشرة قروش ، عدت إلى المنزل أجر وراءي أذيال خيبتي في الحصول على مخلصي من ((توفيق )) ، ولكن حزني ما كان ليطول مع الخطة المحكمة التي أشار بي عليها صديقي ، حين التقيته في المخبز بالمساء ، وذلك بعد أن رجوته ليقرضني المبلغ المطلوب ، فما كان منه إلا أن أخبرني بطريقة يفعلها دوما حين يحتاج لمبلغ كبير من النقود ، وهي طلب المال من مجموعة أشخاص على أجزاء صغيرة ، بحيث تشكل بمجموعها المبلغ المطلوب ، وبالفعل نجحت الخطة في يوم واحد ، وذلك بعد أن طلبت عشرة قروش من والدي في الصباح وعشرة قروش من والدتي في الظهيرة ، وعشرة قروش من أخي  بعد الظهر ومن أختي وقت الغروب ، ومن جدتي في الليل ، وانطلقت مسرعا إلى المكتبة واشتريت المدية التي ستجعلني أسترد قلب معلمتي الحبيبة (( جميله )) .

و في اليوم التالي ، ذهبت إلى المدرسة وأخفيت المدية خلف خاصرتي بعد أن عقدت العزم على قتل (( توفيق )) في ساحة المدرسة أثناء خروجنا لتناول الطعام بعد الحصة الدراسية الثالثة ، و لقد كان العرق يتصبب مني وجسمي يرتعش دون هوادة ، كلما كانت الدقائق تقترب من قرع جرس اللحظة الموعودة ، ولا أنكر أن الصراع بين الخير والشر كان قد احتدم بين عقل ينكر ما بنيتي فعله ، وبين قلب يبيح كل الوسائل المؤدية إلى قلب المحبوب ، فكانت الغلبة للقلب ، وخرجت إلى الساحة أراقب خطوات (( توفيق )) ، وأترصد ذهابه إلى صنبور المياه كي يشرب ، لأنقض عليه من الخلف ، وأرديه قتيلا بضربة من نصل مديتي المتعطشة لدمائه ، وما كانت إلا دقائق معدودة ، حتى اقترب (( توفيق )) من صنبور المياه ، وانحنى كاشفا ظهره لي كي يشرب ، اقتربت منه بخطوات مواربة يعتريها الحذر والترقب من تواجد إحدى المعلمات في محيط الجريمة ، وأخرجت المدية من وراء خاصرتي ، ووجهتها إلى جسد (( توفيق )) ، ولكنها لم تصل إليه ، فقد توقفت يدي بفعل قوة يد رهيبة كانت تضغط على معصمي ، حتى خارت قواي وهوت المدية على الأرض ، ماذا ؟ لا أصدق ما أرى ، إنها المعلمة (( جميله )) ، ولكن أين كانت ؟ وكيف غفلت عن رؤيتها ؟ يا للهول ، ماذا سأفعل ؟ 

لم تكن هناك أية فرصة للتفكير ، (( فجميله )) لم تبادر بالاستفسار أو الاستغراب أو الدهشة ، بل توحشت كلبؤة جائعة وجدت فريستها ، وانهالت بصفعي في كل مكان وصلت إليه كفوف يديها ، وهي تجرني كالدابة العاصية  حين تأبى حوافرها المسير ، باتجاه غرفة مديرة المدرسة ، لم أكن في تلك اللحظات متأثرا بالضرب ، ولم أكن خائفا مما قد يحدث لي من عقوبات تأديبية من قبل المديرة ، بل كل ما كان يشغلني هو خسارتي الأبدية لقلب معلمتي (( جميله )) .

لا جدوى من اختيار القلب للحبيب ، فأنت لن تتمكن من استدراجه لمصيدة الحب ، إذا كان قلبه مشغولا بمصيدة أخرى ، ولذلك لا تحاول اعتراض طريقه ، ولا تتحاذق بخوض حرب عاطفية لاختطاف قلبه، فهو ما كان من نصيبك يوما ، ولن يكون ، مهما حاولت التحايل على الأقدار المكتوبة .

وهذه ليست الحكمة التي نستخلصها من هذه القصة وحسب ، إذ أن للخيبات والهزائم القلبية من بقية تأتي ،  طالما كان المعيار في الاختيار دوما يخطىء درب الصواب ، و نواميس هذا الكون عصية على التفسير مهما اجتهدت في التفكير بمسبباتها ، فقد تتعمد العبور في الزمان والمكان المفترضين ، للإلتقاء بشخص تلهفت لرؤيته ، فيتخلف عن موعده ولا يأتي قط ، وحين تبحث عن الأسباب التي أدت إلى غيابه ، تعتقد أنها ظروف طارئة قد أحاطت بعزمه على الحضور ، كحادث أو مرض أو تلقي أنباء سيئة ، ولكن التفسير الخفي لذلك ، تضافر الكون لحدوث النفور بين قطبي لهفتك لحضوره ورغبته في رؤيتك ، فالغلبة دائما للرغبة السلبية وليست للهفة الإيجابية بالعموم  .

والعناوين المكتوبة في أقوال وأفعال الأشخاص من حولنا ، تلخص ما في متنها من تفاصيل ، فلا مسوغ للاسترسال في التأويل والاجتهاد والبحث عما وراء الكلام ، ففنون المراوغة والتملص من الحقائق الواضحة كقرص الشمس في كبد السماء ساعة الظهيرة ، ليست سوى ذرائع لنا كي نفسر بها ما نرغب بحدوثه ، والذي قد لا يكون إلا ضربا من خيالاتنا وأحلامنا في يقظة الواقع ، فقد تعتقد أن ابتسامة شخص تتمنى الاقتراب منه ، دليلا على قبوله المبدأي لك ، ولكنك لا تدري أنها قد لا تكون سوى ابتسامة بريئة لا تخفي في طياتها أية مشاعر ، وخصوصا مع علمك المسبق بارتباطه بشخص آخر ، ولكن أمنياتك به تجعلك تفسر كل ما يفعله بما يتوافق وينسجم مع أهوائك ، كي تواسي نفسك وتعزيها بما سيظل دوما عالقا في حدود وهمك وخيالك ، دون أن تملك تأشيرة عبوره إلى أرض الحقيقة والواقع .

وقد يحدث أحيانا أن يكون الشخص مرتبطا ، ولكنه يتعمد اجتذاب صفوف المعجبين من حوله ، وذلك لإشباع رغبات لا تنتهي من الغرور والأنانية ومفاضلة الذات على سواها ، وكأنه مركز الكون الذي تدور في فلكه جميع الكائنات ، فلا تشرق الشمس أو تغيب ، ولا تهب الرياح أوتنهمر الأمطار ، ولاتغرد الطيور أو تتمايل أغصان الأشجار ، إلا بمقاييس جنونه المفرط بتعاظم مكانته وعلو كعبه على البشر من حوله ، فكم يعج زماننا بأمثال هؤلاء السفهاء ؟

Followers

Pageviews Last 7 Days