قصص حب لم تجد لها حبيب ... القصة الأولى (( المعلمة جميله )) 1

أشرقت شمس أيلول من خلف الهضاب المكسوة بحجارة الأبنية الصماء ، وتدافعت خيوطها الذهبية باستحياء فتاة بكر في خدرها ، لتعانق نوافذ البيوت الندية ، وتتلاعب بسبات طلاب المدارس المعتكفين في منازلهم من ورائها ، بعد ثلاثة شهور أكملت عدتها برتابة توالت عند هذا الوقت من الصباح تحديدا ، في ضيافة عطلة صيفية لفظت أيامها الأخيرة وتوارت خلف ليلة تود إدراك شقيقاتها في رحلة الزمان المتعاقب بميقات السماء .

كنت صبيا يقترب من إتمام العقد الأول له في هذه الحياة ، وكنت مزهوا بقامتي التي بدأت تطول كأغصان الأشجار حين تبالغ في نضوجها المبكر ، وكعادتي مع بداية كل سنة دراسية جديدة ، ذهبت إلى المدرسة والفضول يسابق خطواتي ، لاستكشاف زملائي الجدد والتعرف على معلمات الصف الرابع الابتدائي ، كان الطقس جميلا والسماء صافية إلا من غيوم بيضاء متناثرة ، تنذر باقتراب فصل الخريف وأجوائه الكئيبة التي ستحول بين الوقت والاستغلال الأمثل له في اللعب اليومي في شوارع الحارة بعد انقضاء الدوام المدرسي .

لم أكترث لتلك الهواجس ولم ألقي لها بالا ، وسارعت الخطى لاجتياز بوابة المدرسة الحديدية المشابهة تماما ، لتلك البوابات المستخدمة في السجون ، ولربما كان هنالك رابط عجيب بين تشابه البوابتين ، فالطلاب والمساجين في مدينتنا، يشتركون في بغضهم للمكان ، ويتوقون دوما إلى الدقائق التي تعتقهم  أحرارا إلى الحياة من جديد ، فالسجن ليس لتهذيب النفس واصلاحها ، والمدرسة ليست نبراسا يضيء ظلمة الجهل ، بل كلاهما وجهان لعملة تدعى الانحراف ، ولذلك نادرا ما نجد مجرما يرتدع بعد خروجه من السجن ، أو طالبا يحترم الآخرين ويصون حقوقهم بعد قراءة أول سطر له في مناهج التعليم .

وقفت في الطابور الصباحي وبدأت أراقب باهتمام شديد ، الجموع التي بدأت تتوافد من طلاب ومعلمات ، لم تختلف الوجوه كثيرا ، فمعظم الحاضرين يكادون يذكرونني بالمشهد ذاته ، قبل انقضاء السنة الدراسية المنصرمة ، مديرة تقف متجهمة الوجه وفي يدها قطعة خشبية غليظة ،معلمات بوجوه شاحبة وبائسة ، وكأنهن يقفن في حضرة المراسم الأولى لجنازة ميت ، عيون حمراء متورمة ، وشفاه أطبقها  العبوس ، ونظرات ازدراء للطلاب المبتسمين في وجوههن ، حفاظا على مظهر الهيبة والوقار ، والطلاب في الضفة المقابلة من الباحة المدرسية ، يقفون كجيوش العسكر ، ويخافون من مجرى النفس الخاطىء في مدارات المزاج السيء لأعضاء طاقم التدريس ، فلقد حدث في يوم من الأيام ، تواصل سعال أحد الطلاب أثناء إلقاء مديرة المدرسة لخطبة عصماء حول ضوابط الالتزام بكل أمر تمليه المعلمات على الطلبة دون مناقشة أو تفكير ، ولكن صوت السعال استفزها ، معتقدة أن الطالب قد تعمد فعلته كي يسخر من كلامها ، لتنهال عليه بضربات متتالية من أداة التعذيب الخشبية التي لا تبارح قبضة يدها ، في أنحاء عشوائية من جسده النحيل ، وما أوقفها إلا قطرات الدماء التي تدفقت كعين ماء جارية ، بعد ضربات توجهت في حين غفلة من الانفعال إلى الأنف والشفتين ، لتنتهي واقعة التعذيب تلك ، وتظل عبرة لكل من تسول له نفسه في تعكير مزاجها بقصد أم بغير قصد ، وهذا بالطبع حال العديد من الشخصيات النمطية المتعثرة بمبادىء الثقة في النفس بمجتمعاتنا ، فهم يعتقدون دوما  أن أي فعل أو كلمة أو حركة تصدر من حولهم ، لا يكون لها مسوغ سوى الاستهزاء بهم ، وأعتقد أن هذه الحالات تعللها اضطرابات عقلية تعود إلى فترات ما قبل البلوغ النفسي وليس الجنسي ، فمجتمعاتنا تعتمد دوما على مقياس ثابت في تشكيل الأطر الأساسية لشخصية الفرد فيها ، والتي ترتكز على عامل ثابت لا يتغير ، القدرة على اضطهاد الآخرين إذا ما هبت رياح مواتية لبث النفوذ والسيطرة ، سواء أكان ذلك في مواقع تعليمية أم حكومية أم اقتصادية ، وحتى في المنابر الدينية أو على عتبات حيز الأسرة الضيق . 

لم تكن آثار المظهر العام للطابور الصباحي لتحرك في نفسي  ساكنا ، لولا إطلالة تلك المعلمة السمراء من خلف البوابة الحديدية ، وهي تسير بخطوات واثقة إلى منصة المعلمات ، دون أن يستدعيها الفضول لاستطلاع الوجوه التي أشاحت عن جميع الحاضرين و استدارت كي تتأملها عن اليمين وعن الشمال عزين ، ولكن عينيها المشابهتين لعيون غزالة برية ، لم تلبث أن تداعت في لمعانها ، بعد أن كشفت شفتيها المتورمتين بأنوثة استثنائية ، عن ابتسامة بالكاد لمحها من تواجد بالصفوف الأولى من طوابير الطلاب ، وكم كنت من أصحاب الحظوة والحظ السعيد ، وأنا اتنشق الهواء الذي اختلط بعبق عطرها الساحر ، لتأخذني بعيدا إلى عالم جميل من المشاعر التي ماعرفتها في حياتي قط ، من تكون هذه المعلمة ياترى ؟ وهل ستكون من معلمات الصف الرابع ؟ كم تمنيت حينها أن تكون كذلك ، كي أتمكن من مشاهدتها في منأى عن هذه الجموع الغفيرة ، ولكي استأثر بمحبتها لي وحدي دون أن يشاركني في ذلك أحد .

Followers

Pageviews Last 7 Days