قصص حب لم تجد لها حبيب ... القصة الأولى (( المعلمة جميله )) 2

وتحققت أمنيتي سريعا بعد قرع جرس الحصة الثانية ، فلقد حضرت إلينا وفي يديها كتب اللغة الإنجليزية ، وهذا كان كافيا للرقص وبث أهازيج لا تنتهي من الفرح والغبطة ، فمادة اللغة الإنجليزية لها نصيب يومي في جدول الحصص ، وتتكرر مرتين في يوم من أيام الأسبوع على الأقل ، ولكن خيوط مشاريع سعادتي ما لبثت أن انقطعت مع طرقات غليظة على باب الصف ، اتبعها ظهور خيال جثة ضخمة لوحش آدمي أشقر ، متأبطا ذراع المديرة التي كانت تبدو وهي ترافقه إلى المدخل وكأنها ابنته الصغرى ، وقفنا جميعا لأداء تحية الخوف ، عفوا أقصد تحية الاحترام للمعلم ، أسوة بقول الشاعر الشهير : (( قم للمعلم وفه التبجيلا ... كاد المعلم أن يكون رسولا )) ، واستمعنا إلى مداخلة غير مطولة للتعريف بالطالب الجديد (( توفيق )) ، والذي يكبرنا جسديا بعشر سنين ، ويصغرنا عقليا ببضع سنين ، إلا أن مشاعر الرأفة والشفقة والرحمة لم تراودني البتة وخصوصا بعد أن شاهدت اللهفة التي اختطفت عيني معلمتي وهي تنظر إلى عيون (( توفيق )) الزرقاء ، ثم ما لبثت أن انقلبت إلى حوار ثنائي بينهما للتعارف الأولي ، لتخبره وابتسامة عريضة قد ارتسمت على محياها (( أنا معلمتك جميله )) .

لا أنكر أنني أثناء مواكبتي لهذا المشهد الميلودرامي بأحداثه المثيرة ، أصابتني حالة من الخيبة والقنوط ، وأنا أقف مذهولا أمام أوراق طاولة أحلامي وهي تتهاوى على أرض اليأس ، فمعلمتي الجميلة (( جميله )) لم تكترث لعيوني التي ما أطبقت رموشها من فرط الانبهار بها ، بل آوت بسهم نظرة واحدة من عيون (( توفيق )) ، كالفريسة التي دخلت المصيدة بمحض إرادتها ، فلا صوت يعلو على صوت (( توفيق )) ، وليس لطالب أو طالبة في الصف حق في سؤال أو جواب ، إلا برضا (( توفيق )) وموافقته المسبقة على ذلك ، ومما كان يستدعي الحيرة والشك ، أن هذه المعاملة الاستثنائية لـ (( توفيق )) ، لم تكن لتظهر بكل هذا الوضوح الذي يبعث النفس على التقيئ ، إلا مع المعلمة (( جميله )) ، فلم تكن ممارسات التمييز العاطفية لـ (( توفيق )) على الرغم من مرضه العقلي ، والذي قد يكون مدعاة لتلك الممارسات ، ينعكس على سلوكيات المعلمات الأخريات ، ولا أعتقد أن السبب في ذلك ناجم عن عدم تعاطفهن مع (( توفيق )) ، بل هو خبرتهن كأمهات في البيوت ، والذي جعلهن على دراية وإلمام بنفوس الأطفال ، وكيف ينعكس ذلك بآثار سلبية على تكوين شخصياتهم وعبورها في مراحل من الحقد والعدوانية ، ونبذ الذات وعدم توازنها وانسجامها مع محيط المجتمع من حولها ، وفقدان الثقة بالنفس واهتزازها على الدوام ، وذلك حين يشعر الطفل بمحاباة أمه لشقيقه أو شقيقته في أي وقت أو مكان ، بظروف اعتيادية أو استثنائية ، فقد يغار الطفل من أخيه المريض إذا ما شاهد أمه تعتني به وتسهر إلى جانبه ، فهو لا يعتقد أنها تفعل ذلك بسبب ظروف استثنائية وطارئة ، بل يضع نصب عينيه أن فعلتها ليست سوى دليل دامغ على جرمها بحقه ، ونبذها له بسبب ميل قلبها إلى كفة محبة أخيه .

وفي ليلة من ليالي الأحلام والأمنيات ، شاهدت معلمتي (( جميله )) تسير على ناصية الطريق التي اعتدنا على لعب كرة القدم فيها ، كانت الشمس على وشك الغروب ، وشفقها الأحمر قد افترش على بساط السماء الأزرق ، أما الأشجار فقد كانت تتمايل أغصانها يمنة ويسرة ، وفقا لأهواء الرياح التي ما كانت شرقية ولا غربية ، ألقيت بالكرة بعيدا وركضت نحوها بأقصى مافي قدماي من قوة ، ومع أنه كان يخيل لي أنها تسير ببطء متعمد ، إلا أنني عجزت عن إدراكها ، حتى تعثرت على الأرض ، بعد أن فقدت توازني بفعل نتوءات بارزة في الأرضية الإسفلتية المهترئة ، والتي ما لبثت أن امتزجت بنزيف ذراعي وأنا أستعين بها كعمود ارتكاز للحد من وطأة سقوطي على الأرض ، فصرخت بصوت تداعى فيه الصدى حين يضج في أعماق بئر مظلم ، إلا أنها لم تلتفت وتابعت مسيرها باتجاه الناصية الأخرى من الطريق ، حيث كان (( توفيق )) ينتظرها وهو يضحك ضحكته الغبية المعتادة ، ويصفق ويغني ساخرا وأصابعه تشير نحوي باستهزاء ، امتلئت غيظا وكيدا ، ولكنني لم أتمكن من النهوض ، لتصل المعلمة إليه وتعانق كفها بكفه ، ثم يرحلان بعيدا عني ، وأنا لا يزال نحيبي مستمرا حتى سمعت صوت والدتي وهي تناديني ، فاستيقظت من المنام وأنا ألهث بأنفاس متقطعة كمن هو في سكرات الموت ، فما كان من أمي إلا أن هوت بصدرها على رأسي ، وأناملها تداعب صدغي ، في محاولة للتهدئة من روعي ، والتأكيد على أنه مجرد كابوس مزعج من أضغاث أحلام ، إلا أنني كنت على قناعة أن ما شاهدته ليس حلما بل هو الحقيقة المؤلمة ، فذلك الأبله الأشقر قد خطف مني أحلامي وأمنياتي  ، دون أن أتمكن من مجابهته كالفرسان الشجعان في رحى موقعة الحب .

وتتابعت الأيام بعدها ، وأنا أقف كشاهد عصر ، على كتابة سطور الأيام التي تزاحمت فيها لوعتي ، مترصدا معلمتي التي عشقتها من كل قلبي ، لا يشغلها من  الحنان والعطف والمودة إلا (( توفيق )) ، كم هو مؤلم هذا الشعور ، أن تجد من أحببت أسيرا في محبة شخص آخر ، ولربما أثناء كتابتي لهذه القصة بعد كل هذه السنين ، أستطيع أن أتفهم السبب في سلوكي العدواني الذي حدث بعد ذلك ، وخصوصا بعد ربطه مع أسطورة (( أوديب )) ، حين استغلها (( فرويد )) ليؤكد أن الولد يتعلق بأمه في صغره أشد التعلق ، و أن مشاعر الغيرة والكراهية تسيطر عليه تجاه والده ، وهو يظن أنه ينافسه في الاستئثار بقلبها ، وهذا هو ما حدث معي تماما في ذلك الوقت ، فأنا كنت متعلقا جدا بالمعلمة (( جميله )) ، وهي لا تبادلني تلك المشاعر ، بل إنها لم تكن تكترث لي قط ، بعكس سلوكها المفرط في الحب لـ (( توفيق )) ، وهذا كان مدعاة لبدء حرب نفسية كارثية في عقلي ، وما كانت  لتنتهي إلا بعزمي وإصراري على قتل (( توفيق )) ، لعل معلمتي حينها تدرك خطأها و تعود إلى رشدها وصوابها ، بالتمييز بين من أحبها وبين من لا يفقه شيئا في أبجديات الحب .

كان كل همي بعد قراري بقتل (( توفيق )) ، الحصول على سلاح لتنفيذ المهمة بنجاح ، ولكن ماذا سيكون ذلك السلاح يا ترى ؟

Followers

Pageviews Last 7 Days