الساحرة المستديرة أم القاتلة ؟

القصة ذات شجون ، فهي تنطلق من مشهد سخيف في أحد البيوت التي كانت في يوم مطمئنة ، بعد أن اجتمع اثنان من الأخوة في سهرة كان ظاهرها عائلية ، في حين كان باطنها غل وحقد متوارث عبر الأيام بين الشقيق الذي كان على الدوام مضطهدا من شقيقه الأكبر في كيفية تصريف شؤون الحياة ، وهذا لم يستدع سوى مرور بضع دقائق من مباراة الدوري الإسباني بين (( ريال مدريد وبرشلونه )) و التي كانا يتابعانها برفقة أبنائهم وزوجاتهم ، حين هتف أحد الأبناء بعبارة استفزازية بعد هدف (( ميسي )) الأول في مرمى غريمه قائلا : (( رح نمسح فيكم الأرض )) ، لتأخذ ولد عمه حمية (( مدريدية )) ويشتمه بلعن والده ، وهذا كان سببا كافيا لصفعه من عمه ، ورد تلك الصفعة بمنفضة السجائر التي هوت بسقوط حر على جمجة رأسه من شقيقه الأكبر ، ونشوب مشاجرة كبرى لم تنتهي إلا بجريحين من أفراد العائلة بحالة خطرة بين الحياة والموت .

وتزداد سخافة المشهد وألمه اتساعا ، عندما يردد أحد المندسين عبارة استفزازية في أحد ملاعب كرة القدم بمدينة عربية ، لينجم عن ذلك سقوط أكثر من خمس وسبعين قتيلا ومئات الجرحى ، فضلا عن قطيعة دبلوماسية كادت أن تحدث بين دولتين عربيتين بسبب مباراة حاسمة في التأهل لنهائيات كأس العالم ، و يكفي التأمل قليلا  بما يتم ترديده في ملاعب الكرة من هتافات عنصرية أو شتائم بذيئة تطال في مناسبات عديدة عرض أوطان وبلاد مغتصبة ومحتلة ، وهذا إنما يدل على مدى وعي ونضوج عقول المجتمعات التي تطالب جهارا ونهارا بالحرية . 

وليس أجمل من كل هذا ، سوى سلوكيات بعض شيوخ البلدان النفطية في الآونة الأخيرة ، ففي الماضي كانوا يشحذون أموالهم ويتسابقون على عارضات الأزياء والممثلات و الراقصات والمغنيات المغناجات من مختلف الأعراق والألوان والجنسيات ، ولكن في هذه الأيام اختلفت ميولهم وأهوائهم ، أو بعبارات أخرى ، فقد أصابهم السأم من المفاخرة بالنساء ، وبدأوا يبحثون عن طرائق أخرى في إثبات مشيختهم حول العالم بأسره ، إلى أن اهتدوا إلى مجال سيجعل صيتهم يجاوز عباب السماء ، فتهافتوا على شراء أندية كرة القدم الأوروبية بحجة أنها ستكون مشاريع استثمارية ناجحة على المدى المتوسط والطويل .

حبكة القصة تكتمل عند التفكير في نهائيات كأس العالم التي ستستضيفها إحدى البلدان الخليجية ، والأموال الطائلة التي سيتم انفاقها في سبيل الإعداد لهذا الحدث العظيم ، ثم تأتي الشعوب (( الكومبارس )) في هذه القصة وتأكل بعضها في حروب أهلية بحثا عن لقمة العيش ، ولكن ماذا لو تخيلنا أن مثل هذه الأموال قد تم إنفاقها في مشاريع تنموية تحارب الثالوث المرعب في عالمنا العربي (( الفقر والجهل والتخلف )) ؟

كنا نضحك في الماضي على أقوال وأفعال العقيد الليبي البائد ، ولكن ألم يكن محقا في يوم من الأيام حين سخر من قطعة الجلد المستديرة تلك ؟ وحرم ممارستها على الأراضي الليبية قبل أن يعود عن قراره الذكي بغير قصد طبعا ، بسبب عشق أحد أبنائه لممارستها .

أذكر دراستي لمادة عن التسويق في أيام الجامعة ، وتحديدا للمبحث الذي كان يتحدث عن المزيج السلعي ، وهو عبارة عن مجموعة من المنتوجات يتم بيعها من خلال شركة أو علامة تجارية واحدة ، وما يميز ذلك المزيج من حيث قوة مبيعاته وسطوة تأثيره على المستهلكين ، قد يحدث من خلال رواج منتج واحد فيه فقط ، بمعنى أنه لو كان لدى شركة منتج يباع بكثافة ، فإنها تستطيع أن تبيع منتجات أخرى تكون مرافقة لذلك المنتج الرئيس بصرف النظر عن جودتها أو رداءتها ، ومنها على سبيل المثال : (( شركة نستله )) التي بدأت بمنتوجات الحليب واعتمدت عليها لاحقا لترويج كل منتوجاتها الأخرى من الشوكولاته والمياه المعلبة وغيرها ، وأيضا شركة (( نيفيا )) التي انطلقت من خلال كريم للعناية بالجلد ، وتوسعت بعد ذلك لتشمل مختلف مستحضرات التجميل للعناية بالبشرة والجسم .

ما أود قوله من ذكري لموضوع المزيج السلعي ، أن كرة القدم أصبحت المنتج الرئيس في ترويج كل ما يدفع بالإنسانية للإهانة ، فإذا اردت أن تروج لإشعال حرب طائفية  ، فليس عليك سوى التحضير والاستعداد جيدا لبث إعلانها من خلال مباراة كرة قدم ، وإذا أردت أن تسوق وتلمع قناة فضائية ، فما عليك سوى أن تضم لباقات برامجها أهم دوريات وبطولات كرة القدم الأوروبية والعالمية ، وإذا أردت نجاح مقهى أو مطعم ، فما عليك سوى تجهيزه وإعداده بأحدث التقنيات التي ستبث مباريات كرة القدم ولن يكون لرداءة الطعام أو الشراب المقدم من أهمية بعد ذلك ، ولكن يظل السؤال في خاتمة هذه القصة ، هل كرة القدم حقا هي الساحرة المستديرة التي تأسر القلوب ؟  أم أنها القاتلة التي تسفك دماء العقول وتلقيها في غياهب التخلف والغباء ؟ 

Followers

Pageviews Last 7 Days